تأثير الصورة في حياتنا اليوم تأثير غير محدود الأثر، دع عنك أن صورة قد تغني عن ألف ألف كلمة، ولكن تذكر أن "الفوتوشوب"، ومن ورائه اعوجاج الضمائر، يشارك في معركة الصورة المعاصرة التي لا حدود لها، بل إنني لا أبالغ إذا ما قلت إن حياة إنسان ترتهن في عالمنا الثالث بصورة محمود عبد النبي رمضان مثالاً، تم تنفيذ حكم الإعدام فيه لمجرد صورة له يرفع علم تنظيم الدولة.
وتأتي الحيثيات بعد ذلك على مهل، وترتيب لوقائع شهدها وما شارك فيها، ولا رضي عنها، من إلقاء للمتظاهرين من فوق سطح مبنى أو خزانه، وهل كان الانقلاب من قبل ليُعاقب على قتل المتظاهرين؟ وهو يُحرضُ عليهم ويقتلهم، ولكأنهم نووا إعدامه، وكانت الصورة رائدهم، ثم جاءت حيثيات الحكم.
(1)
دور معقد التكوين بالألوان وأحياناً الظلال، على مساحة ضئيلة من الحاسب الآلي "الكمبيوتر"، فمثلاً، كنا قديمًا نحتفظ بـ"قصاصات الجرائد" بعد قصها ولصقها في دفتر، كشاهد على إحداث تعزز فكرة لدينا، أما الآن، فما عاد هناك داعٍ للاهتمام بمقال أو كلمات، عدة صور في ملف على الكمبيوتر تكفيك.
ومن الصور التي لا أنساها، مهما رأيت وحييت، صورة الرئيس محمد
مرسي مع قائد الانقلاب ورئيس حكومته في آخر لقاء ضمهم، وصورة للراحل "
سعيد صالح" يضحك في سذاجة ومبالغة مفرطتين في مسرحية "مدرسة المشاغبين"، أو صورة "مرسي الزناتي" متقمصاً شخصاً رحمه الله اسمه "سعيد صالح"، أما الربط بين الأمرين، فهذا ما سأتناوله في الكلمات التالية، مع فارق التشبيه والاحتفاظ للرئيس مرسي ثم الدكتور قنديل بما يستحقانه من مكانة.
الصور بالتبعية تتضخم في حياتنا، بل إنها لتأكل الحياة.
(2)
لدينا صورتان جديدتان:
صورة للرئيس محمد مرسي، وقائد الانقلاب يحلف اليمين القانوني أمامه وزيرًا للدفاع، بعد إقالة المشير حسين طنطاوي وعنان في آب/ أغسطس 2012م، ووزير الداخلية الجديد مجدي عبد الغفار يحلف اليمين الدستوري أمام السيسي منذ أيام.
إنها الصورة ذاتها، مع تغيير فارق في الملامح، وصفاء النية، وحسن السريرة، والرغبة في تعدي مرحلة "مُرّة" من تاريخ مصر، وبين الخيانة متمثلة في شخص لا تهمه مصر ولا المصريين، فقط مصلحته الشخصية، ولو جاء بمساندة أعدائها التاريخيين، هذا إن لم يكن يحمل مشاعر بالغة الكُره لبلده وأهلها، ولأنه لما جاء للمشهد السياسي بقوة تم التخلي عن آخرين، طنطاوي وعنان، وتحميلهما محاولة انقلاب هم حاولوها بالفعل، لكن بمشاركة عكسية من عبد الفتاح السيسي الذي أبلغ عنهما ليتم تكريمه وزيرا للدفاع مكان طنطاوي مؤقتاً، وليتلبس شخصية طنطاوي ومبارك معاً بعد قليل، فيحقق لهما مالم يحلما به.
الرتوش ذاتها مكررة، لكن مع غياب عنصر الصدق منها، يمثله الرئيس محمد مرسي، في مشهد إقالة محمد إبراهيم، ومن ثم توليته منصب نائب رئيس الوزراء قبل هروبه إلى الإمارات، السيسي يحمل محمد إبراهيم مسؤولية آلاف القتلى والمغتصبات والمصابين، والصورة له مع مجدي عبد الغفار، وهو يحلف اليمين، ثم تقول جريدة اليوم السابع منذ ساعات إنه أقيل لأن ميوله إخوانية، ودع عنك أنه ما قتل ومزق، بإذن الله، لهدف علوي يدق على الأفهام، ما فعل هذا إلا بالإخوان، ولكن هل صار من له ميول إخواني، مثل محمد إبراهيم المجرم، ماذا عن "الإخواني" نفسه إذن؟!
(3)
لما دخلت الشرطة مصطحبة وكيل نيابة، لعِظم ما هي مقْدمة عليه من قبض على ممثل معروف اسمه الحقيقي مرسي الزناتي عام 1994م، رحم الله سعيد صالح، وغفر له، قال فيما بعد في حوار مع جريدة الجمهورية، وبعد أن سجن قليلاً ،إن الشرطة والنيابة دخلوا عليه فوق سطوح بيته، وهو في أمان الله، كما نقول بالمصري، أي لا له أو عليه، ومعهم الشيشية "النرجيلة" "مُعمرة" بالحشيش ،فيما هو بريء لم يفعل شيئاً.
إن الراحل سعيد صالح، وهو مثال هنا، قد أفضى إلى ما قدم، ولعل الله تجاوز عنه ورحمه، مثال للإنسان لما تتقمصه صورة ذهنية تطغى عليه، وتجعله لا يعيش ولا يرى الدنيا إلا من خلالها، إنه يحيا وكأنه "مرسي الزناتي"، ويتصرف على إن "شخصاً تم رسمه على الورق واللعب به بكلمات مسرحية هزلية" قد تلبسه كما الجان وأصبح "المُتوهم المنتهية صلاحيته" بخروج الممثل من المسرح، بل بانتهاء عرض المسرحية، وقد توقفت في حوالي منتصف السبعينيات، أي بعد عشرين عاماً من الدور ما يزال، رحمه الله، يعيش في البنطال الشارلستون الضيق من أعلى الواسع من أسفل، وكأنه فتى الثانوي الفاشل الذي يداري فشله بالتلاعب بالمواقف والمبادئ والأفكار.
كذلك بهتت وانطبعت صورة الرئيس مرسي الوطني الحقيقي على عبد الفتاح السيسي، فحاول تقليده في صورة قسم وزير الداخلية الجديد.
(4)
بل إن الأدهى والأمر أن بعضاً من رجال الشرعية ،أتباع الرئيس مرسي ليتلبسهم دور "مرسي الزناتي"، ومع تقديري للحالة النفسية لموظف كبير كان ثم عاد فرداً عاديًا ثوريًا، إلا أن الانتباه لهذا الملمح لدى البعض ومحاولته علاجه خير من الحياء أمامه والصمت عليه، وجعله يدور داخل صاحبه بلا متنفس، وربما أودى به والعياذ بالله.
وفي المنتصف تمامًا يبقى الرئيس محمد مرسي، فك الله أسره وحفظه ورعاه، متماسكاً في صوره التي تخرج عن محاكمة غير عادلة أو حتى منطقية، لا انفصام بينه وبين الواقع من حوله، يقول للقاضي ما استطاع قوله من حقائق، وإن جاء بعضها مدينًا له، ولو من طرف خفي، كمقولة: "المجلس العسكري تغدى بي قبل أن أتعشى به" التي قالها مؤخراً، ولكن بالإجمال الرجل "متعايش" مع نفسه، متقبل لحكم ربه تعالى. متصافٍ متصالح مع الواقع وإن كان بالغ المرارة.
أما البطل حازم صلاح أبو إسماعيل، فصورة أخرى للجمال، أي اتساق المقدمات مع النتائج، حذر وتنبأ، ورأى بعين السياسي المحنك، فخففت عنه هذه الرؤية، ومنها أنه سوف يسجن، خفف ذلك من شديد ما يلقى في سبيل الله تعالى.
(5)
أما قمة مخاطر الصورة، فتفكير نظام الانقلاب في مصر في بث صور إعدام محمود عبد النبي رمضان رحمه الله تعالى، إنهم كانوا يفكرون في بث لقطات الإعدام، على طريقة أمريكا مع صدام حسين، لترويع الآمنين من المصريين، وتخويف الثوار.
ولكن هل عقلوا ذلك، فشعروا أنهم يشعلون النار في مصر لما يعرضون لصورة مظلوم في أشد حالات القهر والبطش، أي وهو يفقد حياته؟ أم هل فهموا إنهم إن فعلوا فسوف تكون الشرارة التي تحرقهم قد انطلقت بأيديهم؟ أم إن الرجل، بعكس مرسي الزناتي الذي يحبون شخصه ويتماهون ويتداخلون فيه، أبدى ثباتاً وتمسكاً عند الإعدام الجائر الظالم أذهلهم، وقلب الآية عليهم، وأظهرهم في مظهر الخور والبطش الجائر حتى لم يستطيعوا بث مشاهد له قبل الإعدام.
رحم الله
محمود رمضان وسعيد صالح، على بعد الفارق بينهما، ورحمنا من نظام انقلابي ظالم، وعالمي أشد ظلمًا، وأيضا رحمنا من طوفان الصور المستخدمة لحاجة في نفوس ناشريها، وجعل صورنا عن أنفسنا مطابقة لوضعنا الحالي، ومواقفنا.