يصارع فن
المالوف القسنطيني، وهو نوع غنائي كلاسيكي مشهور بالشرق
الجزائري، الموت بعد ستة قرون من الرّواج خاصة في الأندلس التي عرف فيها أوج عطائه، قبل أن يدخل خلال السنوات الأخيرة في صراع مع الأغنية العصرية الخفيفة ولم يستطع مجابهتها، فأصبح مهددا بالانقراض والاندثار شأنه في ذلك شأن مختلف الآلات الموسيقية التي يعتمد عليها في عزف نوباته (النوبة هي اسم يطلق على مجموعة من المقامات الموسيقية في فن المالوف).
حمدي بناني، واحد من أبرز شيوخ فن المالوف بالشرق الجزائري، يقول: "نعم فن المالوف العريق فقد مكانته وأبعد عن عرشه وهذه حقيقة لا يمكن إغفالها، والسبب في ذلك يعود إلى غياب جيل قادر على حمل المشعل، واندثار فنانين يستطيعون إبداع كلمات وألحان مالوفية جديدة تعبر عن أحاسيس واحتياجات أبناء هذا العصر".
يضاف إلى ذلك -بحسب بناني- أنانية بعض الشيوخ الذين جعلوا من "المالوف" ملكية خاصة واقتصر توريثهم لهذا الإرث على أفراد عائلاتهم فقط، وهو ما حال دون انتشاره وفق قواعده الصحيحة المتوارثة عن شيوخ الأندلس والدولة العثمانية، وأصبح "عرضة للتحريف خاصة عندما تحول من تراث يجب المحافظة عليه إلى وسيلة تجارية الهدف منها تحقيق الربح السريع فقط".
وفن "المالوف" العريق هو اسم مشتق من كلمة "مألوف" ويتغنى هذا الفن بالطبيعة وجمال المرأة والحب والفراق ضمن قصائد الشعر، وهو أحد الأنواع الغنائية الكلاسيكية الأندلسية التي اشتهرت بها مدينة قسنطينة (430 كلم شرقي الجزائر العاصمة) منذ أزيد من 600 سنة ونشأ في عهد الدولة العثمانية مع الهجرة الأندلسية إلى سيرتا (اسم قديم لمدينة قسنطينة).
وأضاف صاحب الكمنجة البيضاء (اسم يطلق على الشيخ حمدي بناني نسبة إلى لون الكمان الخاص به): "من الأسباب التي تقف أيضا وراء اندثار فن المالوف الكلاسيكي الصحيح هو الزمن الطويل في أداء نوباته، حيث يصل إلى ساعتين من الزمن، وهو ما يفقد المستمع له القدرة على متابعته ويثير الضجر والنعاس خاصة شباب الجيل الحالي الذي يهوى كل ما هو إيقاعي وخفيف".
وتابع: "هذا الأمر جعلني أسعى إلى تطوير الموسيقى التي أقدمها مع استخدام آلات عصرية لإضفاء الخفة والحيوية على المقاطع الغنائية مع الحفاظ على رمزية النوبة دون تحريفها، وذلك باختيار مقام واحد من كل نوبة (النوبة تتألف من 5 مقامات)، يحدث هذا في الحفلات والأعراس، أما في المهرجانات الرسمية والمناسبات الخاصة بفن المالوف فأقوم بتأدية النوبات كما هي في الأصل لأن المكان والزمان يفرضان ذلك، ومن الحضور من يطلبه أيضا".
وفن "المالوف" لا يقتصر على القصائد والألحان فقط، بل هو جامع للمقامات المغاربية العربية الأصيلة، ويسمى المقام الموسيقي في "المالوف" بالنوبة وذلك لتناوب المقامات الواحدة تلو الأخرى، ويصل عددها في الأصل إلى 24 نوبة نسبة لعدد ساعات اليوم، والنوبة هي مزيج بين الموسيقى العربية والأندلسية ويبلغ عدد عازفيها أكثر من 30 موسيقيا، وتتصدر آلة العود العربية الجوق بينما تنال مجموعة الكمان حصة الأسد، متبوعة بعدد من الآلات الإيقاعية مثل الطبل وكذلك آلتي القانون والناي .
من جهته، شرّح الفنان، سليم فرقاني، وهو أحد شيوخ فن المالوف، الوضع الذي يعيشه هذا الفن واقترح في حديثه مجموعة من الحلول لاسترجاعه والحفاظ عليه: "العصر الذهبي للمالوف انتهى بعد أن فقد من هم قادرون على تأديته وفق قواعده الصحيحة، ومن يكرّسون البعض من وقتهم للاستماع إليه ويدركون قيمته كجزء من يومياتهم يرفه عنهم ويثقفهم، لكن الفرصة لا تزال متاحة لاسترجاعه إذا آمنا بما نقدمه من خلال استباق الأعمال المطروحة للجمهور بدراسة دقيقة تحدد طريقة اختراق قلب المستمع وأحاسيسه وترغيبه في الاستماع للعمل، مع فتح مجال التدريب أمام الشباب داخل مدارس مختصة وجمعيات معتمدة".
وأضاف: "يجب إدراج هذا الفن ضمن المقررات الدراسية الرسمية، خاصة أن هذا الفن يربي ويهذب ويرتقي بالأذواق وينمي المواهب ويصقلها، مع التكثيف من المهرجانات والتظاهرات الفنية الخاصة بهذا النوع، وفتح المجال للمنافسة بين الشباب والفرق مع تقديم جوائز معتبرة لمن يقدم العمل وفق قواعده، وهو من شأنه المحافظة عليه ويمكن من استرجاعه".
وقال رشيد بوطاس، رئيس جمعية بلابل الأندلس (جمعية غنائية مختصة في تأدية فن المالوف بقسنطينة): "المالوف فن عريق وهو رمز من رموز قسنطينة، وبغض النظر عن الصراع الحاصل حاليا من أجل تحديد أصوله ومن كان وراء انتشاره، الأهم هو في كيفية الحفاظ عليه من التحريف، وتلقينه للأجيال القديمة وفق قواعده الصحيحة لأنه لو استمر الوضع على حاله سنفقده إلى الأبد".
ويؤكد باحثون أنه بالإضافة للتهميش الذي يعيشه فن "المالوف" العريق وسط أهله، توجد حملة شرسة لتحريف تاريخه وتحديد أصوله التي تعود حسب ما هو متداول وسط الباحثين والمؤرخين إلى مدرسة إشبيلية ( إشبيلية هي عاصمة منطقة أندلوسيا بإسبانيا)، وتم إدخال المالوف إلى قسنطينة عن طريق حكّام الدولة العثمانية، غير أن بعض اليهود من ذوي الأصول القسنطينية (ولدوا بقسنطينة) يحاولون نسبه إليهم وأنهم من كانوا وراء انتشاره وأن "ريمون ليريس" (هو أستاذ موسيقى يهودي الأصل تم اغتياله سنة 1961 من طرف الثوار الجزائريين بعد تعاونه مع المحتل الفرنسي) هو من قام بحوصلة لكل التيارات الموسيقية التي انتشرت وسط شيوخ المالوف في عصره، وجمعها في وحدة متناسقة ومنسجمة.
وقال الباحث محمد الصقلي، في كتاب له تحت عنوان "اليهود في
الغناء العربي والغربي": "من الصعب الفصل بين الإبداع اليهودي والعربي في طابع المالوف، وبينما لا يمكن إنكار أن وصوله إلى قسنطينة كان عن طريق فتوحات الدولة العثمانية انطلاقا من إشبيلية بالأندلس (إسبانيا حاليا)، اليهود لعبوا دورا في تطويره والحفاظ على نوباته التي اندثر بعضها ولم يتبق منها سوى 12 نوبة من مجموع 25، خاصة نوبة "البياتي" التي من الصعب تأديتها وهي من مقام الشجن والحنين بينما يوجد من المطربين اليهود الذي يؤديها بامتياز".
أضاف الباحث أن "ريمون يعد من أبرز شيوخ المالوف وقد لعب دورا كبيرا في بعثه من حيث أنه كان يتمتع بذاكرة قوية وكان حافظا للطبوع وراويا للنوبات المغناة في فن المالوف من شعر وزجل وموشحات بالقدر الذي أهّله ليكون مرجعا لهذا الفن".