غداة جريمة إحراق الطيار الأردني معاذ
الكساسبة حياً، شكّل اندفاع الأردن إلى تصعيد دوره في التحالف الدولي ثم توسعه في ضرب مواقع «داعش» ردّاً كاملاً وحاسماً على هذا التنظيم. وسواء احتُسب ذلك في إطار «الثأر» أو في سياق المشاركة الأردنية في الحرب على
الإرهاب، فإن الأردن أظهر أيضاً عدم تهاونه حيال التعرّض لأبنائه، ليحافظ على وحدة المجتمع في وقوفه ضد التنظيم الإرهابي. وعندما بادرت دولة الإمارات بإرسال سرب طائرات حربية لمؤازرة الأردن، وبالعودة إلى المشاركة في الضربات الجوية، شكّلت الدولتان خطّاً جديداً جدّياً في عمل «التحالف»، وسط سيل انتقادات شبه يومية بأن هذا «التحالف» لا يزال يفتقد استراتيجية واضحة بالنسبة لأهدافه.
وأتاح المؤتمر السنوي للأمن في ميونيخ فرصة لرصد الثغرات العسكرية والسياسية للحرب التي تقودها الولايات المتحدة. فحتى الأمين لحلف «الناتو» يقول إن الضربات الجوية لا تكفي، لافتاً إلى ضرورة تأهيل الجيش العراقي ومساعدته. لكن هذا لا يغطّي سوى جانب من الصورة، إذ إن النقص الأهم في استراتيجية الحرب يتمثّل في عدم وجود استراتيجية واضحة الأهداف والآليات لمواجهة تنظيم «داعش» والسيطرة عليه وهزيمته والتخلص منه. ثم إن الاعتماد على الجيش العراقي حتى بعد إعادة تأهيله، في ظل نظام سياسي تهيمن عليه إيران وفريق مذهبي واحد، لا يعني سوى بداية تأسيس لـ«الإرهاب ما بعد الداعشي»، وكذلك الأمر بالنسبة للتعاون مع قوات النظام السوري. كما أن تقليل أهمية انتشار «داعش» وتهديده مصر من خلال سيناء، وتجاهل خطره على لبنان، والتعامي عن وجوده وعملياته في ليبيا، لم يعد مجرد ثغرة في الاستراتيجية، بل أصبح سياسة أميركية متعمّدة ومثيرة للشكوك والتساؤلات.
في سياق تلك «اللا استراتيجية» جاء القرار الأخير لمجلس الأمن الرامي إلى «تجفيف مصادر التمويل» التي يستند إليها «داعش»، إلا أن القرار نفسه لا يتضمن آليات تنفيذ يمكن أن تحقق أهدافه بوقف تجارة النفط التي كانت تؤمّن للتنظيم دخلاً يومياً كبيراً بنحو 1.65 مليون دولار يومياً قبل أن يبدأ بالتراجع بسبب انخفاض أسعار النفط وبفعل الغارات الجوية. ذلك أن صفقات «داعش» لبيع النفط أو تهريب الآثار أو نقل الفديات لقاء تحرير رهائن أو تمرير شحنات الممنوعات، تتم عبر سماسرة ووسطاء مباشرين. من الناحية المبدئية كان لابد من هذا القرار الدولي، لكنه بدا نجاحاً لروسيا في تسجيل نقطة لمصلحة محور طهران- بغداد- دمشق أكثر منه تصميماً على سعي حقيقي إلى «تجفيف المصادر». صحيح أنه يصب في الاستراتيجية الشاملة المنشودة لكنه لا يجيب عن التساؤلات الكثيرة المطروحة.
قبل واقعة الإحراق، كان للعاهل الأردني اقتراح لم يحظَ بالنقاش الذي يستحقه، إذ دعا إلى بناء «تحالف عربي إسلامي لمحاربة الإرهاب». ولعل الملك عبد الله الثاني انطلق من أن الولايات المتحدة وضعت الاستراتيجية التي تلائمها وأن الجدل مهما احتدم لن يتمكّن من بلورة استراتيجية تستجيب لهواجس العرب والمسلمين. فبعد تحذيره من أن التنظيمات المتطرفة لن تقف عند سوريا والعراق إذا قويت شوكتها بل ستمتد إلى مختلف الدول العربية والإسلامية والعالم، رأى وجوب التصدّي لها بـ«منهج شمولي واستراتيجي وتشاركي»، خصوصاً أن «الحرب ضد الإرهاب هي حرب داخل الإسلام بالدرجة الأولى»، وبالتالي فهي «شأن عربي وإسلامي» لابدّ أن يمرّ بالحرب العسكرية على المدى القصير، فالأمنية على المدى المتوسط، فالإيديولوجية بـ«منهج فكري مستنير» على المدى البعيد، ويعني ذلك أن هذه الجهود يمكن أن تتفاعل في آنٍ إلا أن وتيرة ظهور نتائجها ستكون متفاوتة.
تلك دعوة إلى اعتماد العرب والمسلمين على أنفسهم وقدراتهم واستشعارهم للخطر وإدراكهم للمصلحة العامة والخاصة، ذاك أن التعويل على الآخرين لابدّ أن يستدعي أيضاً أجنداتهم ومصالحهم التي قد تتفق أو لا تتفق مع ما يطمح إليه العرب. وهي اقتراح يصبّ في تطلعات العديد من الدول ودعواتها إلى تنسيق جهودها سواء في الشأن الأمني أو في مكافحة الفكر المتطرّف وتحديث الخطاب الديني، فالجهود الفردية لا تؤدي إلا إلى نتائج محدودة أو هامشية. والأكيد أنها يجب ألا تُلقى على عاتق مؤسسات تقليدية -كالجامعة العربية مثلا- بل تتطلّب تحالفاً استثنائياً بين حكومات مقتنعة بأن مستقبل دولها وشعوبها بات رهن التغلّب على خطر الإرهاب.
(نقلا عن صحيفة الاتحاد الإماراتية)