عملية قتل الأمريكي كريغ هيكس الإسلاموفوبي هذا الأسبوع ثلاثة طلبة أمريكيين مسلمين من أصول فلسطينية وسورية لم تحظ بالتأكيد بالتغطية الإعلامية اللازمة. مما يجب أن نفهمه من عملية الاغتيال، ولو أنها غير مسبوقة، أنها تأتي في سياق قوي من التحريض ضد العرب المسلمين في الولايات المتحدة خاصة في أوساط إعلامية متطرفة (فوكس نيوز مثلاً). لكن بلا شك لا يوجد مصدر لهذا التحريض أقوى وأكثر تأثيراً الآن من فيلم "القناص الأمريكي".
من يقرأ عن قوبلز يفهم أننا إزاء شخصية معقدة. المذكرات التي تركها خلفه بعد انتحاره جنب هتلر تعكس شخصية مركبة فيها الأنا الجنونية المريضة القادرة على صنع البشاعات، وفيها الشخصية حادة الذكاء التي تصل حد الرهافة. قوبلز لم يكن وزير الدعاية للنظام النازي فحسب، وكاتب الخطابات الدعائية الفجة التي يتم بثها على راديو برلين، بل أيضاً مخترع التوظيف السينمائي الواعي في الدعاية السياسية. مدرسة مرجعية تتجاوز الهوية النازية وتتردد بين أروقة منظومات فكرية وسياسية تصل حد التناقض.
فيلم "القناص الأمريكي" أحد أكثر الأفلام مشاهدة الآن في القاعات السينمائية الأمريكية، الذي تم ترشيحه على الأقل لستة من جوائز الأوسكار آخر الأمثلة على مدرسة الثلاثينات الغوبلزية. كان غوبلز يعتبر أن السينما أرقى أنواع البورباغندا السياسية، لكنه حسب شهادات المقربين منه بما فيهم سكرتيرته، لم يحبذ البتة السينما السياسية الفجة. السينما الدعائية المثالية بالنسبة إليه لا يجب أن تمرر رسالة فجة، وكان على هذا الأساس يسمح بدعم الدولة بشكل خاص لسيناريوهات الأفلام التي تتجنب الخطاب السياسي المباشر. لو شاهد غوبلز "القناص الأمريكي"، ربما لم يكن ليسمح بدعمه لما فيه أحياناً من خطاب سياسي فج. يبقى أنه يتبنى الركن الأساسي في سردية الخطاب الفاشي: الخير المتجسم في الغازي العسكري، الأرقى قيمياً، مقابل الشر المتجسم في موضوعات الغزو من جنسيات أقل شأناً.
يعرض الفيلم روايته لقصة حقيقية لقناص أمريكي في الحرب على العراق شارك في الغزو من بدايته. كريس كايل، الشخصية الحقيقية، ذاع صيته بعد نشر كتاب يروي أحداث القنص والمعارك التي شارك فيها ومنها معركتا الفلوجة ومدينة الصدر. الشريط يعكس عموماً ما رواه كايل، تصوراً للحرب على أساس ثنائية الخير والشر. الشخصية العراقية هي إما شخصية شريرة في المطلق، أو خاضعة بشكل مذل. الشر العراقي المطلق أو الخضوع يتجسد في الأجيال والأجناس كلها، من الأطفال الصغار إلى الشيوخ، من النساء إلى الرجال. الإضافات القليلة في الشريط تتمثل تحديداً في إضفاء طابع "إنساني"، خاصة عندما يتعلق الأمر بقنص أطفال. كايل، الحقيقي، مثلما كرر أكثر من مرة لم يندم على من قتلهم بقدر ما ندم أنه لم يقتل المزيد.
الشريط، مثل رواية كايل، يرددان عناصر أساسية في الخطاب التحريضي الذي أدى إلى الحرب على العراق وساهم في استمرارها والاحتلال. على رأسها الربط المباشر والوهمي بين أحداث 11 سبتمبر والحرب على العراق دون أي مسافة نقدية، بما يعيد إنتاج الدعاية الفجة التي سبقت الحرب وبررت لها. أيضاً يتم تكرار الخطاب الدعائي السطحي حول أن الجيش الأمريكي موجود في العراق لتحرير سكانه، الذين لا يؤمنون بالقيم الأمريكية ذاتها، وهي بالمناسبة ليست فقط قيمة "الحرية" الحداثية بل أيضاً وخاصة منظومة القيم المسيحية. إذ الإنجيل لا يغادر كايل القادم من الجنوب الأمريكي المحافظ، ويضعه بعناية منذ صغره في سترته قرب قلبه.
الاتجاه العام للشريط لا يجب أن يفاجئ أحداً عندما نعرف أن المخرج هو الممثل الأمريكي الكبير قبل أن يدخل ميدان الإخراج كلينت إيستوود. اشتهر إيستوود بعدد من المواقف التي كشفت اشمئزازه الكبير من اي تشكيك في التفوق العسكري الأمريكي، وهو ما جعله يهدد بالقتل بشكل ساخر أحرج العديدين مخرج الأشرطة الوثائقية مايكل موور، المعروف بعدائه لحرب العراق، في حفل توزيع جوائز سينمائية سنة 2005. إيستوود معروف بانتمائه للحزب الجمهوري وبرز في مؤتمر الحزب سنة 2012 بمونولوغ نقدي إلى كرسي فارغ على أساس أنه يمثل أوباما.
التأثير الواضح للشريط لم يكن فقط في إعجاب عديد الأمريكيين ووقوف المتفرجين تصفيقاً في بعض الولايات المعروفة بميلها لليمين الجمهوري، بل أيضاً موجة من الحقد البالغ في رود أفعال عديد المتفرجين على مواقع التواصل الاجتماعي. فيما يلي بعضها على شبكة تويتر التي تم تجميعها في أحد المقالات: "إذا كنت رجلاً وشاهدت القناص الأمريكي ولم تقتل عبيد الرمال (العرب)، فمن الأفضل أن تكون امرأة"، "القناص الأمريكي جعلني أرغب في المسك بقارورة جعة، علم أمريكي، ثم اضرب أحد عبيد الرمل على وجهه"، "القناص الأمريكي جعلني أحب مئة مرة أكثر الجيش وأكره مئة ألف مرة أكثر المسلمين". أحد المسلمات الأمريكيات، تلبس الحجاب، روت كيف تعرضت مع صديقتها للاعتداء عندما كانتا تشاهدان الشريط في أحد قاعات السينما الامريكية.
قصة كريس كايل انتهت في الحقيقة بقتله سنة 2012 من أحد الجنود الأمريكيين، الذين يبدو أنهم عانوا من مخلفات الحرب على العراق، وتتم محاكمته للمصادفة هذه الأيام.
شريط "القناص الأمريكي" يعرض لكل المشكلات التي تميز العقيدة العسكرية اليمينية المتغولة، التي لا تريد أن تتعلم من غزو العراق. هناك نقاش أمريكي متصاعد في الطبقة السياسة الآن حول ماذا كان يجب أن يحصل خاصة بعد العودة القوية للقاعدة وداعش في العراق. الجمهوريون المحافظون يحملون المسؤولية لأوباما لأنه غادر قبل الأوان.
على هامش ذلك كله قامت قناة إن بي سي بوقف مقدم الأخبار الرئيسي فيها برايان وليامز عن العمل؛ لأنه استذكر مؤخراً قصة رددها في خضم الحرب، عندما كان المراسلون الأمريكيون المشهورون منغمسين مع القوات الأمريكية ويخوضون حرباً دعائية لا تقل أهمية، ادعى فيها آنذاك أنه تمت محاولة قنص طائرة الهيلكيوبتر، التي كان على متنها قبل سقوط بغداد. تبين الآن أن القصة مختلقة وهو ما أدى إلى تعليق عمل ويليامز لستة أشهر دون مرتب. فالحقائق تنتصر في النهاية ورغم كل الذكاء الدعائي الغوبلزي فإن حياة البوروباغندا قصيرة. ما هو مؤكد في المقابل أن "القناص الأمريكي" لا يعكس العجز عن تعلم دروس التاريخ فحسب، بل أيضاً يمكن أن يساهم في تكرارها في المستقبل.
فيلم القناص الأمريكي بالنسبة لي دمر قيمة مهمة للشجاعة الأمريكية. فالجنود الأمريكان مدججين بالأسلحة ومسنودين بأقوى أساطيل الطيران في العالم ومع ذلك كان العربي البسيط برشاش بسيط لا يبالي ويركب سيارة لا تتميز بأي تدريع مثل أعدائه ويهجم عليهم. ويروي سيناريو الفيلم أن هذا الهجوم جعلهم كالأطفال يستنجدون طائراتهم مرعوبين.