لعل أحد أهم إشكالات الفكر
الديني المتشدد الذي نرى تجلياته في ممارسات وحشية تقترف بتبرير ديني هو التمسك الحرفي بنصوص دينية، ومحاولة استنساخها حرفياً دون مراعاة اختلاف الظروف بين
النص والواقع.
يحاول بعض الإسلاميين تبرئة الإسلام من التهم الملصقة به عبر البحث عن علل تقدح في النصوص التي يستند إليها المتطرفون، لكن هذا المدخل يبدو غير كاف، ذلك أننا مهما رددنا من أحاديث فإنه ستظل في النهاية هناك آثار صحيحة السند لكن تطبيقها في واقع اليوم تحوم حوله إشكالات عديدة، وهو ما يطرح سؤالاً حول ضرورة وجود مدخل آخر لفك إشكالية تطبيق النصوص الدينية في واقع اليوم.
السؤال الأساسي لحل هذا الإشكال: هل النصوص الدينية غاية في ذاتها أم أنها وسيلة لتحقيق غاية؟
هناك مقاصد عليا في
القرآن الكريم مثل الرحمة: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"، والعدل والإحسان: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، والله تعالى حين يسن تشريعات في القرآن فإنه يربطها بغايات أعلى: "لعلكم تتفكرون"، "لعلكم تتقون"، "لعلكم تعقلون"، "لعلكم تشكرون"، هذا يعني أن التشريعات الجزئية ليست سوى وسيلة لتحقيق غاية أعلى في الحياة الإنسانية تنبع من داخل الإنسان وليس من سلطة النص الخارجية مثل التقوى والتفكر والعقل والشكر..
الدين ليس نصوصاً وحسب، والسبب ببساطة هو أن النصوص محدودة بينما الحوادث الإنسانية لا متناهية..
لم يأت الأنبياء بالنصوص وحدها، بل جاءوا بالكتاب والحكمة: "وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ"، فالنص المجرد يتطلب حكمةً بشرية لتضعه في موضعه الصحيح بما يحقق مقاصد الدين العليا.
النص هو قناة تواصل الله مع عباده، لكن كلام الله أوسع من كل نصوص الكتب السماوية وأقوال الأنبياء: "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً"..
الدين في المقام الأول هو معان روحية واستقامة أخلاقية، والنص هو الجانب القانوني في الدين، لكن الإنسان يهتدي لمعاني الصدق والعدل قبل النصوص ثم حين تتنزل عليه النصوص فإنها تضبط مؤشره الداخلي وتلتقط نفسه المحسنة إشارات الرادار الإلهي لتنتفع بها: "ويزيد الذين اهتدوا هدىً".
تفطن ابن القيم رحمه الله إلى هذا المعنى فقال: "حيثما كان
العدل فثم شرع الله"، لا تقل لي أعطني نصاً، يكفي أن أعرف بفطرتي السليمة أن هذا حق وعدل ليطمئن قلبي إلى أن هذا هو مراد الله وإن لم يأت به نص.
حين نتناول القرآن فإن علينا أن نتناوله في إطار أوسع وهو إطار العدل في معناه الفطري، إن النصوص هي مقاربات لمعنى العدل في السياق التاريخي لتنزلها، وحين تتغير هذه السياقات فإننا نحتاج لمقاربة جديدة لضمان أن النصوص لا تزال فاعلةً في تحقيق وظيفتها الأعلى: "ليقوم الناس بالقسط".
السياق التاريخي لتنزل النص يلعب دوراً في فهم دلالة النص وفي التفريق بين روحيته وزمانيته، وفك هذا الالتباس هو الذي يسمح لنا بتجديد مفاهيم الدين بما يضمن بقاء تحقق العدل والرحمة والحكمة حين تختلف الظروف المستجدة عن زمن تنزل النص الإلهي.
ينظر الناس اليوم إلى الرق بأنه جريمة كبرى، ولا يمكن أن يتقبل الوعي البشري أن يستعبد إنسان إنساناً، لكن قد يفاجأ كثيرون إذا علموا أن الظروف التاريخية التي ابتكر فيها الإنسان نظام الرق جعلت منه نظاماً محققاً للعدل آنذاك! يقول المؤرخ الشهير وول ديورانت: " وقلَّ أكل الناس بعضهم لحوم بعض كلما زاد نظام الرق اتساعًا. وإذن فقد تقدم الإنسان من حيث الأخلاق تقدمًا عظيمًا حين أقلع عن قتل زميله الإنسان أو أكله، واكتفى من أعدائه باسترقاقهم."
لقد كان اختراع نظام الرق في فجر التاريخ خطوةً إلى الأمام، إذ انتقل الإنسان من مرحلة أكل الأسير إلى مرحلة أقل سوءً تتمثل في إبقائه حياً وتكليفه بالمهمات التي تخفف عن السيد أعباءه.
إن من الصعب على البشرية أن تستوعب العدل بمعناه المثالي الكامل دفعةً واحدةً، لذلك فإن البشر يقاربون العدل حسب ما تسمح به ظروف كل مرحلة تاريخية، وإذا كان أقصى ما يمكن أن يتصوره البشر في أزمنة خالية من معاني العدل أن يحسنوا معاملة عبيدهم، فإن التطور الاجتماعي البشري اليوم وسع آفاق العدل، فصار نظام الرق بكليته مرفوضاً.
مشكلة الحرفيين أنهم لا يراعون نسبية السياق التاريخي، وينشغلون بحرفية النص عن تدبر سياقه ومقصده الأعلى، والنظر إلى الدين بأنه نصوص وحسب يدخل هذه النصوص في حالة من الصنمية فتتعطل قدرة هذه النصوص عن تأدية الوظائف التي كانت تؤديها في مرحلة تنزلها.
تفطن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه إلى أن الدين أوسع من النصوص، وإلى أن الله يريد منا مقاربة العدل والتقوى وليس التقيد الحرفي، فكان عمر مبادراً لإدخال كثير من التجديدات الفقهية حتى وصل به الأمر أن رد نصوصاً قرآنيةً صريحةً، ليس تكذيباً بالقرآن حاش لله، بل لأنه فقه المقاصد القرآنية العميقة التي تتجاوز ظواهر النصوص، مثلاً فقد عطل عمر سهم المؤلفة قلوبهم رغم صراحة الآية التي تشملهم في مصارف الزكاة، وعلل ذلك بأن الدين قويت شوكته فمن أراد أن يسلم فليسلم اقتناعاً،، هذا الفقه العظيم ما كان ليجرؤ عليه عمر بن الخطاب إلا بإدراكه لما بعد النصوص ولتجاوزه الفهم القانوني الحرفي للقرآن.
إن المدخل الصحيح لحسم كثير من الجدل المثار اليوم لا يكون عبر مناقشة حرفية النصوص، بل بمغادرة هذا المربع كلياً، وبالبحث عن مقاربات جديدة لمعاني العدل والحكمة والصلاح في ضوء تفكيك واقعنا المعاصر وفهم عناصره السياسية والاجتماعية والثقافية، وبعد ذلك استلهام روح النصوص لا حرفيتها وإسقاطها بما يضمن تحقيق العدل والرحمة والحكمة والمصلحة، فإن كانت المحصلة عبثاً وجوراً ومفسدةً فهذا ليس ديناً وإن دللنا عليه بمئات النصوص.
* كاتب فلسطيني.