تردد الجملة السعيدة بنهاية
الثورة العربية للقرن الواحد وعشرين على أفواه من ربحوا الانتخابات الأخيرة في
تونس. "في تونس ولد الربيع وفي تونس وفيها مات". كما لو أنهم يثبتون أن الربيع العربي قام ضدهم بالذات لذلك يفرحون بانتكاسته ويروجون لموت الوهم الثوري داعين إلى العودة إلى ما كنا قبل ذلك. أما الصف المنتمي لهذا الربيع فيعاني الإحباط ويستجمع قوته لينهض مما يسميه كبوة قاسية.
الأسئلة الضرورية:
لماذا خسر أنصار الربيع العربي في تونس الانتخابات؟
رغم أن الخسارة نسبية فإنه لا مهرب من السؤال ولكن لا داعي للوقوع تحت ثقله الماحق. الخسارة ماثلة ولكن الأمل قائم في الاستئناف من لحظة حقيقة مرة وهناك سببان رئيسيان هما:
• أن الصف الوطني الثائر دخل المعركة مشتتا ومفرط الثقة في نفسه.
• أن الصف الوطني نفسه سارع إلى الخضوع بالضغوط الخارجية وبررها ليبرر بها خضوعه.
لقد ظن أنه يمكن ممارسة لعبة الانتخابات مع محترفي التزوير وقال قائلهم نقصيهم بالصندوق فلعبوا في الصندوق لعبة يتقنونها وخسر المؤمنون بالديمقراطية وباللّعب النظيف. لقد عاد الموتى للتصويت في تونس. ولكن التزييف المحترف والمنهجي ليس سبب الخسارة الأول. الخسارة أقبلت من خلال تشتت الصف الوطني أولا عندما دخل الوطنيون مشتتين في الانتخابات التشريعية. وقدموا عن أنفسهم صورة سلبية جدا هي في الحقيقة استمرار لعملهم قبلها أي طيلة فترة
الحكم المؤقت عندما خاضوا في شرف بعضهم وتنازعوا السلطة الغنيمة كما لو أنهم بقوا وحدهم في الساحة ولا شريك/ عدو يتربص بهم ويحد سكاكينه تحت جنح الظلام.3
فرغم تجربة الترويكا الموحية بتوافق كتل وأحزاب إلا أن بأس الثلاثي الحاكم كان شديدا وركب المزايدون من داخلهم موجة النقاء الثوري يمارسون الدلال على شريك الحكم الأقوى حتى أفقدوه توازنه فهم معارضون انقياء رغم وجودهم في السلطة وكل عيوب السلطة على الشريك الأكبر.وكانت قمة المزايدة إغلاق المجلس التأسيس على أبواب انقلاب منظم ومدعوم من القوى الدولية.أما بقية المنتسبين إلى الثورة من خارج الحكم فلم يقدموا الدعم الضروري لتستقوي بهم حكومة هشة أمام معارضة لا تهدف إلى المعارضة البناءة بل للهدم المنهجي بل خربوا عليها بادعاء ثورية لم تكن في سيرتهم إلا قليلا. وكانوا يتصيدون الوزارات كما يتصيد قط سمكة تحت نافذة مطبخ.
فلما دخل أجل الانتخابات عجزوا عن التفكير المشترك ودخلوها شتاتا فخسروا وكان مجموع الأصوات التي شتتوها كافية ليُدخِلوا كتلة نيابية محترمة للمجلس. وقد كان عدوهم القديم قد نظم صفوفه تحت سمعهم وأبصارهم وتقدم متماسكا فأخذ منهم البرلمان بالخديعة تحت عنوان التصويت المفيد. وقد جاء توحدهم وراء مرشح الربيع العربي(الدكتور مرزوقي) في الدورة الثانية متأخرا وغير كاف وهم الآن يعظون أصابعهم ندما على ما انفقوا في الفرقة وكانت الوحدة في متناول أيديهم القصيرة والعجيب أنهم يرفضون بعد الإقرار علنا بأن الفرقة قد أخسرتهم وهم يتقاذفون كرة الخسارة الحارقة بينهم دون اعتراف بالفشل والتقصير. لقد أخسر أنصار الربيع ربيعهم لأنهم استعجلوا الفرح لقد تصرفوا كرُمَاة غزوة أحد فخسروا المعركة والغنيمة المحتملة.
تلك الفرقة وتلك اللهفة كشفتا وعيا مبتورا وقاصرا وغبيا بأفق الربيع العربي (بصفته ثورة شاملة) وأدتا إلى انتكاسة محلية كبيرة ربما لن يمكن دون نقد ذاتي الخروج منها. وليس هذا نقضا لوطنية هؤلاء بل هو كشف حقيقة وعي الفئات الوسطى بالثورة أنها غنيمة سريعة لا يمكن تفويتها واللحظة فعلا تجعل المرء يترحم على ماركس فهو خير من كشف أخلاق البرجوازية الصغيرة الانتهازية رغم تنظيرات متأخرة عن المثقف العضوي لقد تبين أنه لا يكفيك أن تقرأ قرامشي لتكون مثقفا عضويا.
الضغوط الدولية كذريعة مهادنة نخبوية.
فهمنا للربيع العربي أنه ليس انتفاضة محلية ضد حكم محلي بل هو في عمقه ثورة ضد الوضع الدولي الذي صنع الحاكم المحلي الذي كان الهدف الأول لهذه الثورة لذلك فإن تكملة الثورة ضد العدو الخارجي كانت مهمة الربيع الثانية لكن الأحزاب المتكالبة على الغنم السريع أغفلت ذلك وبررت لاحقا كل أشكال الاستسلام للنظام القديم بالخضوع للضغوط الخارجية كأنها تكتشفها فجأة ولم تكن من ضحاياها. فروجت لإنقاذ الممكن في ظل العجز عن تحقيق المطلوب ثوريا. لقد وجدت لنفسها ذريعة الاستسلام التي برر لها عدوها بقاءه وغطرسته. فكأنما نزلت عليها الحجة من السماء لتجعل سعيها مبتورا. وذهبت الأحزاب إلى إقناع جماهيرها بحتمية التفاوض على الحد الأدنى الوطني والديمقراطي مسببة كسورا في الجمهور العريض الذي ربط بين الثورة والتحرر الوطني ورفع على سبيل التذكير الشعب يريد تحرير فلسطين وهي أم قضايا هذا الجمهور الرازح تحت الاحتلال المباشر وغير المباشر.
هل كان يمكن دفع الثورة إلى مداها ؟ نعم كان هذا خيارا فعليا قائما وكان الوضع الدولي في وضع التسليم لهذا الحراك الشامل والتعامل مع نتائجه وكلما كان السقف أعلى كان الوضع الدولي يهادن ويتبني ويتظاهر بالقبول لكنه لما وجد استعدادات داخلية لأنصاف الحلول عاد يفرض شروطه ويقاسم المنتصرين نتيجة انتصارهم ثم يتحول إلى وضع الذي يملي الشروط إملاء. فكانت الردة من الداخل وفي الوضع التونسي يذكر هذا باتفاقيات الاستقلال المنقوصة التي أبرمها بورقيبة في قمة ثورة الاستقلال للحصول على نصف استقلال وكان أمامه أن يضع يده في يد الثورة الجزائرية ليحصل استقلالا كاملا وبشروط المنتصر لا بشروط من يلقى سلاحه قبل نهاية المعركة.
القول بوجود ضغط خارجي على دول الربيع العربي حقيقة لكن استعماله من قبل النخب داخليا هو الذي جعله يتحول من نوايا خارجية إلى فعل داخلي لأن الذين تصدوا للحكم منذ البداية كانوا قابلين بأنصاف الحلول السياسية من أجل نصف الغنيمة بما يجعل المعركة تتضح أكثر الربيع العربي معركة تحرر وطني خانتها النخب في الداخل. والنتائج التي أفرزتها الانتخابات مكنت لأكثر المتنازلين وأكبر القابلين بالتعاون مع الضغط الخارجي بالانحناء له وخدمته طبقا لما يريد لا ما تريد شعوبها.
هل هو اليأس ؟
الذهول يحل ثقيلا والإحباط لكن الذين خاضوا النضال ضد الدكتاتورية يتذكرون تقاليدهم وسبلهم الآن ويرصون الصفوف من جديد. هناك يقين حصل بسرعة كمثل صفعة ماء بارد على وجه مطمئن. لقد غيرت الدكتاتورية ثوبها واكتسبت شرعية جديدة لكنها في الواقع ستواجه استحقاقات قاسية ستعصف بها ولذلك فإن الفائزين سيهربون إلى الأمام كعادتهم بخلق معركة جانبية هي معركة الحريات واسترداد الحقوق التي تعطل في هذه اللحظة هيئتها المؤسسة بالدستور بمنعها من تحوّز الأدلة المحتملة بالقانون.
تونس التي شهدت ثورة تعود إلى الدفاع عن مربع الحريات وسيقوم اليسار الاستئصالي خاصة وهو جزء من الفائزين بالسلطة الجديدة بدوره المعتاد في الدفع إلى الاستئصال السياسي للإسلاميين بذريعة الإرهاب. ليدخل الربيع العربي في حالة الدفاع عن نفسه لكن الأمل قائم فعلا بموجة وعي بمعركة الحرية بصفتها جزءا من معركة الاستقلال الصعبة والعالية الكلفة. وستكون موجة صادمة تنهي التحجج بالضغط الخارجي وتقطع أواصر وده بعملائه المحليين. إن شعار الشعب يريد لم يصل إلى مداه. وعلى الثوريين إن يلتقطوا الإشارات بذكاء. لذلك فالربيع العربي لم يمت في تونس وهو يتحفز في غيرها والثورة موجات متتالية وحوافزها تعود بقوة لميلاد جديد.