بذريعة
داعش، أصبح بمقدور الذين يتعاطون مع الإسلام "كدين فلكلوري" ، والآخرون الذين يعتقدون بأن الإسلام السياسي أخطر من "الوباء"، أصبح بمقدورهم أن يصولوا ويجولوا في حقول الشريعة وأحكامها هدماً وتجريحاً وانتقاداً، وأن يفصلوا بالنيابة عنا جميعاً وعنها ما يلزم وما لا يلزم من أفكار "وفتاوى" ومواقف.
لا يخطر في بالي أبداً أن أدعو إلى مصادرة "حق" أي أحد في التعبير عن رأيه، سواء في الدين أو في الدنيا، أو أن أحصر هذا الحق في طائفة أو طبقة مهما كانت مواصفاتها، ولكنني أعتقد أن هؤلاء الذين اقتحموا المجال الديني فجأة، أخطأوا مرتين: مرة حين نصبّوا أنفسهم أوصياء جدداً على دين الله، مع أن معظمهم من غير أهله، ولا علاقة له بعلوم الدين ولا بشؤونه، فأفتوا دون علم، وأساؤوا ربما عن قصد أو دون قصد، ومرة أخرى حين تصوروا بأن ما فعلوه يصب في تجاه مواجهة
التطرف والعنف باسم الدين، أو الدفاع عن نموذج الإسلام الذي تصوروا أنه الصحيح، فيما الحقيقة، أن الجمهور الذي خاطبوه مهما كانت اتجاهاته الدينية، لايثق بمنطلقاتهم وبخطابهم ومقاصدهم، وبالتالي جاءت ردوده عليهم في عكس الاتجاه، بل وربما أضافوا إلى التطرف رصيداً جديداً ومريدين آخرين، ذلك أن غالبية المتدينين - لا سيما الشباب - قد تحركهم مثل هذه الدعوات للتمسك بقناعاتهم، ما دام أن الذين يتصدون لمخاطبتهم مجهولون أو مشكوك في موقفهم من الدين أو في حالتهم الدينية.
نماذج "التصحيح" التي وردتنا في سياق نقد التطرف الديني ومواجهة أتباعه كما جاءت على ألسنة هؤلاء كانت صادمة، فهي أولاً- إقصائية، وثانياً- اعتباطية وانتقائية، وثالثاً- تتحرك في مجال لا تعرفه وتخطئ فيما تصدره من أحكام، ورابعاً- تتصادم مع قناعات استقرت لدى من تخاطبه من دون أن تتوسد إقناعه بالتي هي أحسن. أحدهم -مثلاً- دعا إلى إلغاء ذبح الأضاحي في العيد، باعتبارها تشكل انتهاكاً لحقوق الحيوان كما أنها (تصور..!) تثير شهية الأطفال للقتل والدم. آخر دعا إلى وقف "حدّ" الرجم للزناة لأنه لم ترد آية في القرآن تشير إلى ذلك، كما دعا إلى عدم تنفيذ أحكام الإعدام بحق من يقتل باعتبارها ليست قصاصاً، ثالث لم يتردد بإصدار فتوى كفّر فيها الشباب الذين تورطوا في التطرف ...وهكذا يمكن أن نكتشف المزيد من النماذج التي تصب في اتجاه تفصيل "إسلام جديد"، وفق أهواء من يعتقد أن مشكلتنا الأساسية هي بعض الأحكام الشرعية، وأن حلها هو شطب هذه الأحكام على اعتبار أن الفهم الديني فقط هو المسؤول عن التطرف، بينما التوحش في المجالات السياسية والاقتصادية بريء من دفع الشباب إلى هذه الهاوية.
لكي يكون خطابنا ضد التطرف مقنعاً، لا بد أن ننتبه إلى مسألتين مهمتين: إحداهما تتعلق بمضامين الخطاب الذي نتبناه لدحض روايات المتطرفين، وهذه المضامين يجب أن تكون منسجمة مع ثوابت الدين وروحه ومقاصده، وأن تكون مقتعة للجمهور المتلقي، ولا تتقصد استفزازه وإنما تتقصد الاستثمار في تدينه وتحريك إيمانه و وازعه الديني، بمعنى أن تسير في اتجاه يتطابق ولا يتعارض مع مسار التدين؛ لأن اصطدامه مع هذا المسار سينقلب للضد، وسيدفع لمزيد من التطرف. أما المسألة الأخرى فتتعلق بمن يتولى مهمة إصدار أو توجيه هذا الخطاب من الفاعلين في المجال الديني أو السياسي أو الإعلامي، وأعتقد أن أفضل جهة يمكن أن تتصدر منصات التوجيه والإرشاد( لا الأمر والفرض والتأنيب)، هي المعنية بالشأن الديني أو المحسوبة على "العلم الديني"، فهي أولاً متخصصة في هذا المجال والأدرى بتفاصيله، وهي ثانياً الأقدر على فهم حالة المنخرطين في التدين وفهم ميولاتهم وأفكارهم ، ومتى كانت نزيهة ومستقلة وتحظى بالثقة، فإن ذبذبات إرسالها سيتم التقاطها من قبل الجمهور المستهدف، لأنها على الأقل ستكون محل ثقتهم، وغير مشكوك في مواقفها من الدين.
بقي أن أشير إلى نموذج تصحيحي ورد على لسان الأزهر في سياق الإجابة عن سؤال "تكفير المنتمين إلى داعش"؛ حيث جاء في البيان أن الأزهر لا يكفر أحداً نطق بالشهادتين، وقد فصل في ذلك وقال :إن الإيمان القلبي أصل والعمل فرع ، وبالتالي فإن عدم وجود العمل لا ينفي أصل الإيمان، كما ذكر أنه يرفض تكفير داعش لأنه لا تكفير لمؤمن مهما بلغت ذنوبه، ولو حكمنا بكفرهم لصرنا مثلهم ووقعنا في فتنة التكفير.
أشرت إلى هذه الفتوى لأقول، إن اقتناع جمهور المتدينين بالرسالة التي تصلهم في إطار تصحيح الفهم الديني أو مواجهة الانحراف والتطرف، تعتمد على مضامينها وعلى أسلوبها أولاً وعلى انسجامها مع حالتهم الدينية، التي تقوم على الدفاع عن الإسلام والشعور بالخوف عليه، ثم على الظروف التي تحيط بهم وما ترسخ في ذاكرتهم من صور وأحكام عن الجهة، التي تصدر عنها مثل هذه الملاحظات والدعوات التصحيحية..وهذا ما يجب أن ننتبه إليه إذا فكرنا في وضع استرايجية حقيقية لمواجهة التطرف، أو تبني خطاب إعلامي لإقناع الشباب بتصحيح مفاهيمهم عن الدين والجنوح إلى الاعتدال.
(صحيفة الدستور الأردنية)