عبر إصدار كتاب بعنوان "
السينما الكردية"، احتفت الدورة الـ36 من
مهرجان القاهرة السينمائي بسينما
الأكراد، ربما في تعويض جزئي لعجز المهرجان عن استضافتهم كضيف شرف بعد أن حالت حرب "داعش" دون وصول فناني الكرد وأعمالهم الفنية.
ويناقش الكتاب الذي جاء في 15 فصلا بداية هذه الصناعة التي ولدت متعسرة إلى أن ازدهرت، مستعرضا أهم المبدعين الذين شكلت أعمالهم نقلات نوعية في هذه الصناعة الثقافية.
الكتاب الذي خطه الكاتب السوداني إبراهيم الحاج عبدي يعتبر أن حصول
فيلم "الطريق" للمخرج بلماز غوني على السعفة الذهبية في مهرجان "كان" عام 1982 كان البداية الحقيقية للسينما الكردية؛ ذلك لأن وصول فيلم كردي لمنصة تتويج مهرجان سينمائي من أرفع مهرجانات العالم فتح عيون النخبة الكردية على سحر الفن السابع؛ خاصة أن مخرج الفيلم قدم عملا مثقلا بالهموم والهواجس التي كانت تشغل بال الأكراد آنذاك.
ومنذ هذه البداية المتأخرة التي جاءت بعد قرن من اكتشاف شعوب العالم للسينما، شرع الأكراد في استخدام اللغة البصرية وكأنهم أرادوا تعويض ما فاتهم من تأخير، فانهمكوا في ترجمة كل مهاراتهم وإبداعاتهم لأعمال سينمائية، معتمدين في ذلك على تراثهم الثري بقصص الحب واللوعة والبطولة والشجاعة، فضلا عن حكايات المآسي والاضطهاد؛ فتحقق للسينما الكردية حضور لافت في العقدين الأخيرين.
جاء هذا الحضور اللافت خاصة مع تنامي اهتمام شركات الإنتاج الأوروبية بتمويل
الأفلام الكردية ثقة في نجاحها، ومن ثم مساهمة إقليم شمال العراق في تمويل بعض الأفلام؛ لتكون النتيجة هي أن الفيلم الكردي أصبح لا يغيب عن أي مناسبة سينمائية دولية، وقلما يخرج من المنافسة دون أن ينتزع جائزة تخلده.
ووفقا للكتاب، فإن "أحد أبرز أسباب نجاح السينما الكردية استنادها إلى قضية إنسانية عادلة؛ فالقضية الكردية التي خضعت كثيرا للمساومات والمصالح الدولية وجدت طريقها إلى السينما التي قدمتها من منطلق إنساني جمالي بمعزل عن ألاعيب السياسة؛ ما منح السينما الكردية رحابة وتنوعا يصعب اختزاله في كتاب"، بحسب المؤلف ذاته.
والكرد أو الأكراد (بالكردية: کورد)، هم شعوب تعيش في المنطقة التي يسميها الأكراد كردستان الكبرى، وهي اليوم عبارة عن أجزاء من شمال شرق العراق وشمال غرب إيران وشمال شرق سوريا وجنوب شرق تركيا، ويبلغ تعدادهم 40 مليون شخص.
أما عن بدايات السينما الكردية، فأرجعها الكتاب لمطلع عشرينيات القرن الماضي تحديدا عقب الثورة البلشفية (الثورة الروسية عام 1917) حينما بدأ السينمائيون السوفييت بتأسيس سينماهم القومية، وفي مقدمة هؤلاء كان المخرج آمو بيك نزاريان الذي قدم أول فيلم عن الأكراد بعنوان "زاريا".
ففي عام 1926 توجه نزاريان إلى جبال "آراكسي" حيث يعيش الكرد ليخرج أول فيلم سينمائي عنهم، فبدأ بدراسة عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم وقبائلهم، كما طرح استبيانا على الأكراد يتضمن أسئلة عن معتقداتهم ومهنهم وأعيادهم وطقوسهم وطريقة عيشهم، واستنادا على كل ذلك جاءت أحداث الفيلم لتدور عن قصة حب على خلفية الصراع بين رجل إقطاعي وأحد الرعاة البسطاء حول فتاة فقيرة تدعى "زاريا".
ثم توقف الإنتاج السينمائي الكردي لمدة نصف قرن قبل أن تظهر ثلاثة أفلام وثائقية بعناوين "أكراد أرمينيا السوفيتية"، و"نحن أمميون"، و"نحن الأكراد" لتدب الروح من جديد في جسد سينما الكرد.
بعدها أتى تتويج فيلم "الطريق" في مهرجان "كان" والذى لم يكن الطريق إليه محفوفا بالورود، فمخرجه بلماز غوني ولد في بيئة فقيرة معدمة تعاني مختلف صنوف التخلف والإهمال والتعصب، وعانى الكثير من أجل الوصول لهذه المكانة الثقافية المرموقة.
انتقل الكتاب بعد ذلك ليرصد كيف أنه من تلك البدايات المتعثرة انطلقت موجة سينمائية جديدة مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، انطلاقة بدت أشبه بالثورة الفنية على العقود السابقة التي طمست خلالها الهوية والثقافة الكردية.
ومن أبرز العوامل التي دعمت تلك الانطلاقة، وفقا للكتاب، استقرار إقليم كردستان مع انتهاء الحرب التي أخرجت قوات النظام العراقي من الكويت، ففي أعقاب هذه الحرب تمتع الأكراد بشيء من الاستقلالية، وراحت الصحافة والسينما والفضائيات تزدهر في إقليم فتي متعطش لإنجاز قفزات نوعية في مجالات الفنون.
واستعان مسؤولو السينما في الإقليم بخبرات إيرانية وتركية، فضلا عن الخبرات الأجنبية في المجال التقني، ووسط كل ذلك ساهمت أجواء الحرية والانفتاح في طرح أفكار وموضوعات أغنت السينما من ناحية المضمون بعد سنوات من الغياب القسري.
وأشار الكتاب إلى عامل آخر ساهم في نهضة السينما الكردية وهو التطور التكنولوجي الهائل الذي مكن السينمائيين من إنتاج أفلام بأساليب بعيدة عن الإمكانات الإنتاجية الضخمة.
كما وثق الكتاب في بعض فصوله قصص حياة أبرز المخرجين الأكراد كالمخرج بهمن قبادي الذي اصطلح النقاد على تسمية أفلامه بـ"سينما الاحتجاج الهادئ"، والمخرج حسن علي محمود الذي قدم أشهر الأفلام الكردية "حي الفزاعات"، و"شيرين"، والمخرج هونر سليم والذي يعني اسمه بالكردية فنون وحركات السحر والرشاقة، والذى يرى مؤلف الكتاب أن له حظا وافرا من اسمه.
ومن أبرز الأفلام الكردية التي اشتمل الكتاب على عرض لها الفيلم الروائي الطويل "ضربة البداية" للمخرج شوكت أمين كوركي والذي مزج بين عدة مدارس سينمائية لتقديم محنة العراق في قالب فني مؤثر يجمع بين حرارة واقعية السينما الإيطالية الحديثة ورهافة السينما الإيرانية وبساطتها وأخيرا الكوميديا الحافلة بالألم.
فمنذ البداية وبلا أي مقدمات يضع المخرج المشاهد في مواجهة مع أحداث الفيلم التي تبدأ في فصل الصيف بعد سقوط النظام العراقي عام 2003؛ حيث تتحرك كاميرا المخرج لتوثيق حياة نحو 300 عائلة من اللاجئين العراقيين كردا وعربا ممن شردتهم الحرب الأمريكية فوجدوا في أحد ملاعب كرة قدم محافظة كركوك (شمالي العراق) ملاذا آمنا.
ويرصد الفيلم كيف تسير الحياة في بيوت الصفيح المتناثرة على أطراف الملعب في أجواء سوداوية وسط فوضى الفقر وغبار طائرات العدو وأصوات الانفجارات.
شخصيات الفيلم المنهكة روت بملامحها في الأحداث تاريخا طويلا من القهر والمعاناة في وطن مزقته الحروب الوهمية تارة والمذهبية والطائفية تارة أخرى.
في هذه الأجواء التي عدمت كل وسائل الترفيه، سعى بطل الفيم لتنظيم مبارة كرة قدم بين أطفال العرب والكرد، وقبل انطلاقها بدقائق نشب بين الفريقين خلاف حاد، فالعرب يرفضون أن يكون الحكم كرديا وكذلك الأكراد لم يرتضوا حكما عربيا؛ ما أحال المشاهد ببساطة لواقع العملية السياسية المعقدة في العراق.
ثمة رسالة سياسية هامة بعث بها الفيلم حينما ذهب بطله لشراء الكأس التي ستهدى للفريق الفائز من سوق كركوك، لكن انفجارا غادرا اقتنص حياة الكثير من الأبرياء ومن بينهم بطل الفيلم الذي كان رمزا لكل المعاني الجميلة لعراق المستقبل، لكن "الإرهاب الأسود" أصر على اغتيال الأمل الذي كان يلوح فيالأفق والذي كان ممثلا في شخص بطل "ضربة البداية" لتنتهي أحداث الفيلم وكأن السينما الكردية تقدم رثاء للواقع العراقي.