كتب
حازم الأمين: حين اتصلت المراهقة الفرنسية من أصل مغربي بشقيقها، من مخبئها في ريف حلب، قالت له إنها سعيدة هنا وتشعر بأنها تعيش في «عالم ديزني». ونقلت وكالة «رويترز» عن شقيقها، أن شقيقته البالغة من العمر 15 عاماً، والتي هربت من عائلتها المقيمة في جنوب فرنسا إلى سورية والتحقت بـ «داعش»، كانت في طفولتها التي لم تكد تغادرها بعد، شغوفة بعالم ديزني، وأنها كانت تعيش حياة عادية في كنف عائلتها، علماً أن حوالى 10 في المئة من الأوروبيين الملتحقين بـ «داعش» شابات ومراهقات تولت مافيات «
جهادية» أوروبية تهريبهن إلى سورية والعراق، ونشطت في هذه المافيات نساء تولين إقناع المراهقات. ولا يبدو هنا أننا حيال ظاهرة دياسبورية، ذاك أن بين «المهاجرات» إلى «داعش» أوروبيات مسيحيات ويهوديات الأصول والنشأة.
المراهقة الفرنسية التي أبلغت شقيقها أنها تعيش في «عالم ديزني» الذي كان شغفها في طفولتها، أصابت بتشبيهها هذا ملمحاً لـ «داعش» لطالما ألح على مراقبي هذا التنظيم، وعلى متقصّي أخباره. فلـ «داعش» وجه غير واقعي، أو ربما غير متصل بأكثر من خيال مراهقة. صحيح أنه حقيقي، وهنا تكمن المأساة، لكن الحقيقة حين تصبح غير واقعية، تحمل في هذه اللحظة احتمال الموت. فلنا هنا أن نلاحظ كماً هائلاً من الحقائق غير الواقعية. الذبح المصور والسبي واجتثاث الحاضر، كل هذه الحقائق «الداعشية» لا تحيلنا على الواقع، وهي إذ تفعل ذلك، يصبح «عالم ديزني» احتمالاً في وعي المراهقة الفرنسية.
و «داعش» الذي باغتنا بتدفقه إلى مُدننا وصحرائنا وجبالنا، هو نوع من الشر الذي كنا نعتقد بأنه لم يعد موجوداً إلا في السينما. قَطَعة الرؤوس كانوا قبل «داعش» كفوا عن استدراج اشمئزازنا. كانوا غير حقيقيين على الإطلاق. ما يجري الآن ليس خطوة إلى وراء في الواقع، هو خطوة إلى وراء في الخيال، فها نحن نستأنف اشمئزازنا وخوفنا منهم، وعلينا أن نعيد الاعتبار لمكتبة سينمائية كانت كفت عن إدهاشنا.
المراهقات الأوروبيات اللواتي وصلن إلى منازل أشرار الصحراء، أقمن في رعاية زوجاتهم. الرجال يقاتلون على تخوم المُدن بشعرٍ مشعّث ولحى سود، والنساء ينتظرن خلف خطوط الحرب وبصحبتهن مراهقات أوروبيات. أليس هذا مشهداً من فيلم استشراقي ركيك؟ لكنه الآن حقيقة تنقلها وسائل إعلام تملك صدقية تفوق صدقية الخيال الهوليوودي. أليست ساعة «الروليكس» في يد أبو بكر البغدادي حقيقية؟ وهل تحققت الشركة من ذلك؟ لكنها في يده لحظة إعلانه خلافته، وفي الوقت الذي كان محققو الأنساب في «داعش» يُثبتون أنه يعود بنسبه إلى الأشراف وإلى الرسول، وأن خلافته استقامت لأنه حسيني قرشي.
يقاتل «داعش» على تخوم كل المدن. هو على أبواب بغداد اليوم، وها هو يفتح كوباني ويعيدها «عين العرب». مدن الأنبار وقصباته تتهاوى واحدة وراء الأخرى، وبر الشام سقط بالكامل تقريباً. لا يبدو أن ذلك واقعي، لكنه حقيقي. ثم إن مساحات واسعة من «دولة الخلافة» يتم إخضاعها من دون احتلالها. يدخل «داعش» فتعلن العشائر مبايعته، فيغادر الأمراء مطمئنين. علينا هنا أن نستعيد أيضاً ما قالته المراهقة الفرنسية لشقيقها، وأن نتذكر أن ساعة «الروليكس» بيد الخليفة تعكس ومضة حادة من شمس الصحراء وترسلها إلى وجوه شيوخ العشائر التي بايعته.
و «داعش» إذ يذكّرنا بتاريخنا الركيك وغير المحقق، يعيد فتح كل الجبهات القديمة. «الخلافة» كما
تركناها قبل آخر انهيار لها. حرب على الأكراد وعلى الأقليات، وإخضاع العشائر، وجباية الديات. ونحن إذ كنا نعدّ أنفسنا لمواجهة مع حاضرنا وماضينا القريب الذي أعقب انهيار «الخلافة»، إذا بـ «داعش» ينقض على عدونا فيطيحه ويرثه، لنجد أنفسنا أمام عدو مضاعف. وهذا أيضاً لا يخلو من «ديزناوية»، ذاك أن أحداً لا يمكنه تفسير ما جرى. حتى الذهاب بفكرة المؤامرة إلى أقصاها لا يسعف في التفسير. فلا السؤال عن الجهات الممولة يكفي، ولا عن دول سهلت وسلحت.
من كانت حاله هذه في لحظة تدفق «داعش» على مدنه وبلاده، لن يسعفه في الأيام التي ينتظر فيها ذبحه، على يد مراهق بريطاني ينتمي الى احدى عشائر الأنبار، سوى الضحك المتواصل. والضحك هنا ليس بسبب مفارقات ما يجري، إنما بسبب أن ما يجري حقيقي فعلاً، وأن ثمة ما كنا نعتقد بأن الواقع لم يعد يتيح لنا أن نصدقه. هزيمة هائلة للعلم ولأنواع المعرفة تجري أمام ناظرينا، وانتصار للخيال ولـ «ديزني» شريرة هذه المرة.
وفي هذا الوقت يُحصي الأوروبيون «مجاهديهم» الجدد، ويسعون الى فهم شيء عنهم. تسقط فرضية الجيلين الثالث والرابع من المهاجرين أمام حقيقة أن نصف «المهاجرين» إلى «داعش» هم أوروبيون ومسيحيو الأصل. تسقط فكرة المهمشين أمام واقع أن عدداً لا يستهان به ممن غادروا إلى سورية والعراق أبناء فئات متوسطة ومتوسطة عليا. ويجري البحث اليوم عن أنواع من التعليم والتخصص والمعارف الجزئية، كما يجري تقصٍّ ميكرو سوسيولوجي ونفسي، وهذا لا يسعف في تفسيرات عامة لما يجري لهؤلاء المراهقين، إنما في تفسير كل حالة على حدة.
قال شقيق المراهقة الفرنسية إن شقيقته كانت طفلة فرنسية بالكامل. غير متدينة في الظاهر ولا تجيد العربية، وتذهب إلى مدارس الفرنسيين. لكنه قال إنهم عثروا في غرفتها بعد مغادرتها إلى سورية على ثياب للصلاة، علماً أن لا أحد في المنزل يصلي. والبحث جارٍ اليوم في ملفاتها الطبية والمدرسية، يتولاه مختصون نفسيون لا باحثون سوسيولوجيون وسياسيون.
الأرجح أنهم لن يعثروا على شيء يفيدهم. وربما انطوت «هجرتها» إلى «داعش» على رغبة طفلة في المغادرة. لا شيء أكثر من ذلك. ركبت في الطائرة وغادرت إلى أنقرة أو اسطنبول، ومن هناك إلى مدينة غازي عينتاب، ومنها عبرت الحدود إلى سورية.
لم تـعد هذه
الرحلة صعبة على مراهقة فرنــسية. ربما هذا هو «داعش».
(الحياة اللندنية)