المسألة الأولى: هل تعيد "حماس" إنتاج المسار الفتحاوي؟
تبدو "فتح" بشكل أساسي مغرمة في محاولة مطابقة صورة "حماس" على صورتها، في خطاب سياسي ينطلق من أيديولوجيا فتحاوية يتقدم فيها العداء لـ "حماس" على أي طرف آخر، فالخطاب الفتحاوي عمومًا، خاصة الشعبوي منه والذي كثيرًا ما يهيمن على النخب القائدة، يتبلور حول الصراع مع "حماس"، ولأن طبيعة هذه الخطابات تنجذب إلى إلحاح وسواسيّ يرى العالم من نافذة الصراع المركب، فإنها تنتهي دائمًا إلى صورة مركبة من التناقض المريع، دون أن يشعر صاحبه بهذا التناقض، فهو قادر على اتهام "حماس" بالشيء ونقيضه دون أن يشعر بتأنيب الضمير، لأن المقولة المتخمة بالتناقض تتغذي من مخيال لا يرى في "حماس" إلا الحركة التي تأسست لتدفع "فتح" عن موقعها الطبيعي كمتن فلسطيني واحد لا يعرف المفردات الفلسطينية الأخرى إلى هوامش على ذاته.
هذا الصراع الذي اختلقه المخيال الفتحاوي مركب، لأنه مقهور بثنائية متنافرة، فحقيقة "حماس" أنها شريك وطني أساسي يتجذر عميقًا ويمتد عريضًا في البنية المجتمعية الفلسطينية وفي حركة التحرر الوطني، وهي حقيقة لا يمكن تجاوزها أو القفز عنها، ولكن يصعب جمع هذه الحقيقة مع صورة "حماس" التي استقرت نهائيًا في المخيال الفتحاوي، وبالتالي فإنه ينتج دعاية معادية لـ "حماس" يسودها التناقض الذي لا يكاد ينفد.
إلا أن صورة التناقض المقصودة في هذه المسألة؛ هي الشغف في الادعاء بأن "حماس" لا تلبث إلا أن تستنسخ المسار الفتحاوي، على نحو يشكك في مصداقية "حماس" ويعزز صحة الخيارات الفتحاوية، فما هو مدعاة للتشكيك في صدقية "حماس" مدعاة للافتخار بصوابية رؤية "فتح" السياسية! وبهذا تصير "حماس" المتهمة في مصداقيتها معيار التصويب والحكم على الخيارات! وهذه الصورة من التناقض تصيب المخيال الذي أنتجها بالبؤس المقيم.
بيد أن هذا الشغف يتلبس ضمير بعض المثقفين، الذين يحترفون المساواة بين "حماس" و"فتح" والمماهاة بين سياساتهما، والتعبير عن ذلك في كلاشيه مبتذل يقدم "حماس" على أنها حركة "فتح" الملتحية.
ولا شك أن دوافع هذا السلوك في تحليل المشهد الفلسطيني متباينة؛ فمنها ما هو تصور نمطي محمول على التجربة التاريخية السلبية لحركة التحرر الوطني والتي لم تكن "حماس" منها إلى حين انطلاقتها في العام 1987، وبالتالي ألحق هذا التصور الحركة الجديدة بسابقاتها تلقائيًا دون أن يلحظ عناصر التميز، وصار هذا الإلحاق بدهية تنطلق منها عملية التحليل للمشهد، ومنها حالة اعتياد على النقد الذي لا يلحظ المعطيات في الواقع صدورًا عن نرجسية ثقافية تستبطن اعتقادًا بسوء الجميع سوى ذات المثقف!
وإذن يعتسف المثقف في مطابقة ما لا يتطابق، مسقطًا كل الواقع من حسابه، كما أسقط كل السياقات التاريخية التي أفضت إلى السياسات، وبهذا يصير تصريح الدكتور أبو مرزوق التحاقًا نهائيًا من طرف "حماس" بسياسات التسوية التي بدأتها وانتهجتها واستمرت عليها حركة "فتح"!
يمكن أن نضيف لفريق المثقفين هذا، بعض المتشككين الدائمين بـ "حماس"، ومنهم متعصبو بعض الفصائل، الذين لا يفصل بين تشكيكهم والآخر بـ "حماس" عمومًا، وقيادتها السياسية خصوصًا، إلا حرب تتبعها حرب!
ثمة طرف آخر؛ يمثله بعض من جمهور "حماس" اعتقد أن هذه
التصريحات تأتي في سياق تغير حقيقي في سياسات الحركة، يخترق خطابها "الجامد"، ويعدد في أدواتها السياسية، وهذا الفريق غالبًا يسقط مزاجه الفكري وطباعه النفسية على حقائق الحياة بما في ذلك السياسة، ثم يصطلح مفردات عديدة للتعبير عن أفكاره يحتكر فيها الحكمة والفهم والانفتاح والمهارة وحسن التدبير، ويأتي في القلب من ذلك الاعتقاد بأن
المفاوضات المباشرة مع العدو (وبصرف النظر عن السياق والملابسات والاشتراطات) إحدى التعبيرات السياسية عن الفهم السياسي الحصيف، وحسن إدارة المناورة!
المسألة الثانية: هل تعبر تصريحات الدكتور موسى أبو مرزوق عن موقف المؤسسة التنظيمية؟
يفترض أن يكون بيان المكتب السياسي لـ "حماس" قد حسم الجدل بهذا الخصوص، ليس فقط من ناحية نفي حصول تغير في سياسة الحركة فيما تعلق بالمفاوضات مع العدو، ولكن أيضًا من ناحية أن هذه القضية ليست مطروحة في مداولات الحركة، وهو ما ينبغي أن ينفي التحليلات التي ذهبت بعيدًا حينما جزمت بأن تصريحات الدكتور ناجمة عن رؤية متفق عليها.
نفي حصول مداولات يعني أن المؤسسة التنظيمية لم تناقش هذه القضية، ولم تتبن في شأنها توجهًا جديدًا، وهذا لا يعني أن مثل هذه الأفكار لا تراود بعض النافذين أو أصحاب الرأي والمشورة في الحركة، كما قد تراود قسمًا من جمهورها، وهو أمر حاصل دائمًا، ولكنه لا ينعكس بالضرورة في توجه تنظيمي جمعي الأصل فيه أن يراعي ثوابت الحركة وتضحيات الآلاف من أبنائها بما يمنع أي تغير جوهري في سياسات الحركة إلا في إطار واسع من الشرعية يحمي الحركة من ارتهان سياساتها الأساسية إلى تداول القيادة أو استبداد مراكز القوى أو استفراد المواقع المؤثرة إن كانت جغرافية أو قيادية.
المسألة الثالثة: في تقييم تصريحات الدكتور
يجب النزول من المستوى التجريدي الذي يرتاح فيه العقل حيث يكتفي بمناقشة المفاوضات كفكرة، إلى المعطى الواقعي الذي جاءت فيه تصريحات الدكتور أبو مرزوق، وكما عبر عنها بنفسه، فإنها تظهر كرد فعل على سياسات السلطة تجاه قطاع غزة، وفشل محاولات رفع الحصار المتعددة التي التجأت إليها الحركة من المصالحة وحكومة الوفاق الوطني إلى الحرب وما تلاها من مفاوضات في القاهرة، فهي إذن دون الرؤية الإستراتيجية التي تبرر التغيير في السياسات.
ولا يمكن القول إن مشكلة قطاع غزة متعلقة بالوسيط التفاوضي، بقدر ما هي متعلقة بالاحتلال صاحب اليد العليا على الوسيط التفاوضي، بما لا يجعل لأي مفاوضات مباشرة ضمن موازين القوى القائمة قدرة على تحقيق مطالب "حماس" إلا في حال استجابت "حماس" بدورها لمطالب الاحتلال، ولأن هذه المفاوضات في هذه الحالة ستنتهي إلى الفشل، فإن المكسب الوحيد المتحقق منها هو مكسب الاحتلال المعنوي.
تصير المفاوضات ذات جدوى، في الوقت الذي تتغير فيه موازين القوى بما يحرم الاحتلال من القدرة على إملاء شروطه، ولا يكفي تغيير الجهة المفاوضة لتحقيق هذا الوضع، وطالما أن هذا الوضع لم يتحقق بعد فإن الحديث عن المفاوضات لغو لا طائل منه إلا التشويش على صاحبه طالما لم يكن هناك تغير فعلي في السياسات.