مئات الآلاف من المقاتلين والثائرين والمطاردين والمشرّدين والمعتقلين في المجال العربي كله يصومون رمضان هذا العام، وما خلا عام من ثلّة في هذه الأمة تصوم رمضان وهي في موقع الرفض والثورة والمقاومة، وهي بذلك تكشف عن تحقق جانب من الغاية الواقعية لشعيرة
الصيام، وتستحضر معها معركتها الجوانية على خطوط المعركة البرانية مع الطواغيت القائمة في ميدان الوجود البشري.
فوظيفة العبادة لا تنتهي بمجرد انتقال المؤمن من صراعه مع الطواغيت الثاوية في داخله إلى الطواغيت القائمة خارجه، لأن ساحة المعركة دائرية تبدأ من الداخل وتمتد في الخارج ثم تعود إلى نقطة البدء في حركة دائرية مستمرة.
فالاستمرار في أداء الواجب في الميدان البراني منوط بالقدرة على رصد طواغيت الهوى والخوف والطمع والجزع والهلع التي ما تلبث أن تطل برأسها داخل الميدان الجواني كلما قُهر لها رأس، وبهذا فإن الإسلام يمثل
المشروع التحرري الوحيد المنفتح على إمكانات الاستمرار والتواصل، وفي هذا السياق تأتي العبادات والتشريعات فيه: "إن الإنسان خلق هلوعًا * إذا مسّه الشر جزوعًا، وإذا مسّه الخير منوعًا، إلا المصلين..".
بيّن القرآن أن الغاية من الصيام هي تحقق التقوى، وحتمًا فإن التقوى لا تتحقق بالقيام بفريضة واحدة، وإنما هي بناء واحد ينهض على الكثير من الأسس واللبنات، بيد أن للصيام موقعًا متميزًا في هذا البناء، جعله فريضة ثابتة في الرسالات كلها التي سبقت الرسالة الخاتمة، وبمعنى آخر فإن الصيام ضرورة لأجل الاستمرار في رفع بناء التقوى، وهو إذن ضرورة لحياة صحيحة للجنس البشري، ولحماية الإنسان من نفسه، وضمان مدافعة مثابرة تحامي عن الكرامة الآدمية وحرية الإنسان.
هل هذا واضح في القرآن؟ يمكن استعراض ثلاث آيات مفسّرة، الأولى هي آية الصيام: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون"، فالصيام كتب في الرسالات كلها، وكأنه لا يمكن أن يقوم الإنسان بوظيفته كما ينبغي له أن يقوم إلا إذا استمر قائمًا بفريضة الصيام، وهي الفريضة التي تجعل من التقوى غايتها كما هي غاية العبادات والتشريعات الربانية كلها، ذلك لأن الكرامة الآدمية تتحقق بقدر ما تتحقق التقوى على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي.
فقد قرر القرآن أن الله تعالى كرّم بني آدم: "ولقد كرّمنا بني آدم.."، وجعل من قصة الوجود الإنساني القصة المركزية للوجود كله، فهيأ لهذا الوجود تهيئة مهيبة جمع لها أهل السماء ثم أسجدهم لهذا الإنسان، وبين أن التقوى هي معيار الكرامة الآدمية على المستويين الفردي والجماعي: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وبهذا يمكن القول أن الله تعالى فرض الصيام من أجل تحقيق الكرامة الآدمية.
تتحقق الكرامة الآدمية، أو بتعبير آخر التقوى، بالقدر الذي يتحرر فيه الإنسان من عبودياته المتعددة، فهو مكبّل بمخاوفه ورغباته وشهواته وأهوائه، والتي من شأنها إن استبدت به وسقط أسيرها أن تحيله إلى نمط خاص من الأنعام يهبط يفيه الإنسان من سمو الكرامة الآدمية إلى حضيض البهيمية، فتتعطل قدراته المعرفية ولا يبصر بعد ذلك الحقائق، ويهوي فريسة غرائزه: "ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون".
وإذا كانت العبادات عمومًا ذات وظيفة تربط الإنسان بمالك الملك، على نحو يفسح له بشكل مستمر للتأمل في سبل تجاوز التحديات التي تعرض لها انبثاقًا من نفسه الجزوعة، فإن الصيام ألصق تلك العبادات بجسد الإنسان، ويستهدف تمرين الإنسان على ترويض ألزم شهواته، وهي شهوات تنطوي على لذة من جانب، ويقوم عليها استمرار الإنسان فردًا وجنسًا (الطعام والشراب، والجنس) من جانب آخر، وهو بهذا، أي الصيام، يحرر الإنسان من عبوديته للّذة بما يمنح وجوده أفقًا رحبًا من المعنى، فالحياة الصحيحة هي تلك التي تكون على مراد الله لأنها بهذا فقط تصون كرامة الإنسان وتضمن له حريته، وبالتالي يحرر الصيام علاقة الإنسان بالكون من العدمية ومحض الانتفاع والقوة، فيفتح له طريقًا ممتدًا ولاحبًا بالبصيرة وثريًا بالرؤية والمعرفة والفهم وبالضرورة بعد ذلك القدرة على الحياة والقيام بالواجب على مقتضى
التكليف الرباني في خضم المواجهة والتدافع: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون"، فالصيام تمرين مستمر لقهر الهوى والحفاظ على استمرار البصيرة ومد آفاق المعنى "واتقوا الله ويعلّمكم الله".
وإن المعنى يتجلى في عملية التدافع التي تأخذ أشكالاً متفاوتة من النعومة والقسوة الرهيبة، والإنسان حامل الرسالة في ذلك محتاج إلى البصيرة التي يحبسها الهوى، والصبر الذي تقتات عليه الشهوات والمخاوف الجوانية، فكان الصيام مفتاحًا من مفاتيح البصيرة ودعامة من دعائم الصبر و"إنّ الله مع الصابرين".