بعد الانهيار السريع على مستوى الموصل منذ أكثر من أسبوع تواصل "
داعش" تقدمها السريع وتثبيت سيطرتها على المجال الذي يهيمن عليه السنة وسط وغرب
العراق. حتى اليومين الأخيرين تتمثل صورة موازين القوى عسكريا كما يلي:
-بسط التنظيم بشكل كامل أو شبه كامل سيطرته على المدن التالية قدوما من الشمال إلى وسط البلاد وقرب الحدود العراقية مع سوريا والأردن وحتى
إيران: تل عفر، الموصل، شرقات، حويجة، رياض، الصينية، البوكمال، القائم، الروى، عانة، الوليد، الرطبة، طريبيل، الرمادي، تكريت، العظيم، الفلوجة، السعدية. يجب الإشارة هنا الى أن "داعش" سيطرت على بلدات قريبة جدا من بغداد بما في ذلك أبو غريب وحتى جنوب بغداد مثل جرف الصخر.
- "داعش" بصدد خوض معارك داخل عدد من المدن وتسيطر على أجزاء منها أحيانا، ولكن ليس من المؤكد أنها تخضع لها ومنها: جلولاء، حديثة، هيت، المقدادية، الصقلاوية، الخالدية، بهرز.
- وأخيرا "داعش" بصدد خوض هجمات تهدد مدنا مهمة مثل سامراء وكركوك وبعقوبة.
وهكذا فالتقدم نحو بغداد يتم من خلال محورين الشمال والشمال الشرقي (عبر تكريت) والشمال الغربي (طريق كركوك-بغداد). وهذا يعني أن معظم المدن الواقعة جنوب خط الموصل-كركوك إلى بغداد هي إما تحت سيطرة "داعش" أو تحت تهديد سيطرتها الوشيكة عليها. وبهذا المعنى فإن مساحة تقارب النصف من المساحة الإجمالية للعراق هي تحت سيطرة كاملة أو جزئية لـ"داعش" من خلال السيطرة على عدد واسع من المراكز الحضرية ومن ثمة الطرق الرابطة بينها، كما أن تواصل هذا التقدم سيعني بالضرورة تحول بغداد إلى ميدان معركة حرب شوارع طاحنة.
هناك جملة من الاستتباعات لهذا التحول في موازين القوى:
- مع تركز الجهود العسكرية والهجومية لـ"داعش" في الأراضي العراقية فإن التنظيم يتجه بالضرورة الى العودة إلى أصوله العراقية. تركز جزء هام من قياداته في العراق والعلاقات الخاصة التي شكلوها مع عدد من العشائر العراقية ستجعل خطته الراهنة تتركز في العراق خاصة مع وجود عدو مثالي: فالنهج الطائفي المهيمن على "داعش" يرتاح بشكل خاص مع توجه طائفي خالص مقابل تمثله حكومة المالكي والتعاطف الطائفي داخل الشيعة، وخاصة بروز الردود الإيرانية والذي سيجعل من المعركة تتجه أاكثر فأكثر من الغرب نحو الشرق.
- رغم سيطرة "داعش" على عدد من المدن الحدودية السورية االعراقية إلا أن النتيجة المباشرة المفترضة لتركيز جهوده على العراق سيجعل من خط المواجهة بين "داعش" والنظام السوري أقل سخونة، وبالتالي إمكانية مبادرة الأخير بهجمات معاكسة لافتكاك المبادرة. هذا ما يمكن أن يفسر على كل حال مبادرة الطائرات الحربية للنظام السوري في الأيام الأخيرة للهجوم على المدن الحدودية مع العراق، وربما حتى داخل الأراضي العراقية (في القائم مثلا) وبتنسيق على الأرجح مع حكومة المالكي.
- تستهدف "داعش" في حربها الحالية وبشكل واع مناطق نفطية وسط وشمال العراق. تركيزها على مهاجمة كركوك يأتي في هذا الإطار. ومنذ يومين لم يكن من المصادفة أن تركز هجماتها على عدد من آبار النفط، وهكذا استطاعت السيطرة على وجه الخصوص على عدد من الآبار النفطية قرب مدينة بيجي (آبار عجيل) والتي ترتبط بأكبر محطة تكرير نفط في العراق وهي محطة بيجي. "داعش" سيطرت أيضا في الأيام الماضية على مدينة "منصورية الجبل" شمال مدينة المقدادية حيث يوجد أحد الآبار النفطية الهامة (بئر "المنصورية 1").
- من الناحية الاستراتيجية "داعش" لا تشكل تهديدا لمنطقة جيوسياسية هامة فقط، بل ايضا لأحد اهم المقومات الاستراتيجية في المنطقة أي النفط خاصة إذا أضفنا معطى تم التنصيص عليه في تقرير صدر منذ أكثر من أسبوع للوكالة الدولية للطاقة يشير الى أن النفط العراقي سيمثل في العشرية القادمة أكثر من 60? من إجمالي نمو الإنتاج النفطي في دول "الاوبيك".
في هذا السياق يمكن أن نفهم المؤشرات الواضحة على ميل الحلف الأمريكي-البريطاني نحو إيران وحكومة المالكي وربما أيضا النظام السوري. إعلان الحكومة البريطانية عن إعادة فتح سفارة بلادها في طهران منذ أيام قليلة يعبر عن هذا التوجه (تم إغلاق السفارة سنة 2011) والأهم يأتي في سياق عودة الحديث في واشنطن نحو عودة دبلوماسية أمريكية لطهران. للتذكير التقارب الأمريكي الإيراني في الملف العراقي كان دائما سياقا لاحتمال عودة
العلاقات بين البلدين وهو الأمر الذي برز مثلا في حكومة بوش الابن باقتراح من كوندليزا رايس، وهناك لوبي قوي يدعم الآن هذا التوجه في بعض مراكز الأبحاث الأمريكية (مثلا تقرير "المجلس الاطلنطي" من قبل السفير سيتوارت ايزنستات سنة 2013).
زيارة كيري إلى بغداد حسمت ربما الآن على الأقل الجدال الذي يبدو أنه يدور في دائرة القرار الأمريكية بين البقاء متفرجين من بعيد أوالاقتراب من المالكي ضد "داعش". تلميحات كيري بضربة عسكرية أمريكية (على الأرجح جوية) وعودة "المستشارين العسكريين" إلى العراق يعني أن مسار "انسحاب" القوات الامريكية من العراق سيأخذ منحى معاكسا تماما. والتعاون العسكري الأمريكي-الإيراني في العراق يبدو أنه أصبح أمرا واقعا وهو على الأرجح السياق الموضوعي لعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
الأمر لن يتوقف على إيران ربما. مقال أنطوني كوردسمان في النيويورك تايمز منذ أيام قليلة والذي يركز على أنه لا يوجد "حل جيد" في سوريا وأن الحل الوحيد هو بالضرورة "أقل سوءا" يعطي المعطيات الأساسية التي يمكن أن تدفع واشنطن لاعتبار الصراع مع النظام السوري عقبة أمام حسم الصراع مع يبدو أنه الآن خصمها الرئيسي أي "داعش".
في كل الحالات فإن السطوة المتزايدة لـ"داعش" يعني موضوعيا تراجعا واضحا لخصوم طهران الرئيسيين في المنطقة خاصة الرياض وتل أبيب.