شهدت الأعوام الثلاث الأخيرة تغيرا ملحوظا في فضاء الجماعات الجهادية الإسلامية، وتشمل هذه التغيرات تراجعا في دور التنظيم المركزي للقاعدة، وصعود جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وظهور حركة أنصار الشريعة في شمال إفريقيا والتمرد الصغير في سيناء المصرية.
ورغم أن هذه التطورات تم رصدها وتحليلها من قبل مراقبي الحركات الجهادية إلا أنه لم يتم بعد فهمها ورؤية أبعادها واستيعابها ومن قبل الباحثين الأكاديميين فكريا، وما تضيفه هذه التطورات لفهمنا لما يسميه الباحث النرويجي توماس هيغهامير -من المعهد النرويجي للدفاع- بـ"العنف الإسلامي"، وذلك في ورقة قدمها لمؤتمر عقد في كانون الثاني/ يناير تحت عنوان "إعادة تفكير الإسلام السياسي".
ويقترح الكاتب في ورقته سبعة افتراضات أو مزاعم عامة تعين في مهمة إعادة التفكير في
الظاهرة الجهادية.
الطائفية وليس الجهاد العالمي
وأول هذه الافتراضات أن الجماعات الجهادية لديها عقيدة وفكر مستقران يقومان بتشكيل تصرفاتها السياسية بطريقة يمكن التكهن بها. ويرى في تحليله لهذه النقطة أن تجربة السنوات الماضية أظهرت أن فكر الجماعات الجهادية الذي درسه الكاتب وحلله على أنه أيديولوجية، مرن ومتقلب أكثر مما كان يعتقد.
ويشير إلى الحالة السورية التي تبنت فيها الجماعات الجهادية العابرة للحدود عدوا جديدا ممثلا بالنظام السوري والشيعة بشكل أكبر. ويرى في هذا تطورا مهما لأن الحركات الجهادية العالمية لم تظهر اهتماما بالحرب الطائفية، و"في الحقيقة، فقد شهدت الفترة ما بين 2012 و2013 أحداثا، كنا نتوقع فيها أن يتدفق المقاتلون إلى مالي وليس إلى سوريا، لأن الفرنسيين هم الذين قادوا الغزو، ويناسب النزاع في مالي الرواية الجهادية عن (
صدام الحضارات) أكثر من الذي يحدث في سوريا".
ويضيف الكاتب هنا: "وأستطيع القول إنه لا يوجد في الخطاب الجهادي العابر للحدود قبل عام 2011 ما يؤكد أن سوريا ستصبح المكان المفضل للمقاتلين الإسلاميين الأجانب".
ويلفت إلى أن هناك العديد من الأمثلة التي برزت خلال العقد الماضي والتي تظهر عدم التناسب بين ما تعلنه الحركات وما تفعله.
ويضرب هنا أمثلة عن الحركات الجهادية التي ظلت تمنح الولاء لتنظيم
القاعدة الدولي، في الوقت الذي ظلت فيه أهدافها محلية. كما أن الجماعات لم تغير مواقفها حول أهدافها الاستراتيجية، ومن تريد أن تقاتل ومن لا تقاتل. ولكنها غيرت مواقفها حول القضايا التكتيكية. ففي بعض الأحيان يتم كسر الحواجز المعيارية المتعارف عليها والمتعلقة بوسائل معينة، كما هو الحال في العمليات الانتحارية، أو يتم تعديلها والعمل بها كما هو في حالة استهداف المدنيين المسلمين. واستطاع المتشددون الإسلاميون تغيير مواقفهم الجامدة نوعا ما أكثر من "السلفية الجهادية". ويمكن القول إن الجهاديين ربما كانوا جامدين في مسائل الفكر والعقيدة لكنهم أظهروا براغماتية فيما يتعلق بالمواقف والتصرفات العسكرية. وقد تقود البراغماتية هذه الجماعات لنبذ العنف وبشكل مؤقت وتبني وسائل تعبير سياسية، بحسب ما يرى الكاتب.
ويدعو هيغهامير الباحثين إلى أن يكونوا أكثر حذرا ودقة عندما يتعلق الأمر بفهم الموقف العقدي من خلال وثائق وأدبيات الجماعات الجهادية.
غياب الاستراتيجية
وهذا يقود لمفهوم آخر بحاجة للدراسة وهي استراتيجية القاعدة التي يرى باحثون أنها كبيرة وترشد الحركة الجهادية العالمية. ورغم أن هذا المفهوم ليس متداولا بكثرة بين الباحثين الإسلاميين أكثر مما هو متداول بين المسؤولين الأمنيين وصناع السياسات إلا إنه بحاجة لنظر وقراءة.
ويقول إنه صدرت في العقد الماضي سلسلة من الدراسات التي زعمت أنها توصلت لمعرفة خطة القاعدة أو برنامجها للعالم العربي، لكنها ظلت محل تساؤل في الماضي ومنذ بداية القرن الحالي، لكن الفكرة تم هزها مع بداية الربيع العربي عام 2011. فلم تقدم الحركة في العامين الأولين من بداية الثورات العربية سوى مواقف غامضة ومتناقضة حول الكيفية التي يجب فيها التصدي للاضطرابات.
ويمكن القول إن الربيع العربي عرى القاعدة وكشف عن طبيعتها المتمزقة والمتفتتة إقليميا. ومن الأمور التي غيرها الربيع العربي في نظرتنا للقاعدة والجهادية بشكل عام، فكرة أن الجماعات المرتبطة بالقاعدة لا تهتم ببناء نظم حكم ثورية أو أشكال من العمل الاجتماعي، وفق اجتهاد الكاتب.
ويرى أن هذا الفهم بني على تاريخ الجماعات الجهادية التي لم تظهر أو لم يكن لديها وقت لتقديم الخدمات الاجتماعية، أسوة بحركات مقاومة مثل "حماس" و"حزب الله". وقد تغير هذا المفهوم منذ بدايات القرن الحادي والعشرين. ففي اليمن وسوريا أظهرت جماعات جهادية وعيا وفهما لأهمية الانخراط في المجتمع، وتعلمت أن تطبيق نظام رقابة متشدد على الناس يهمش الحركة ويعزلها عن المجتمعات التي تعمل فيها. ورغم أن هذه الجماعات لم تقدم نموذجا ناجحا بعد، إلا أن الوضع قد يتغير.
تؤيد القاعدة قولا.. لا فعلا
ويقول هيغهامير، إن هذ الفهم يقود لتحليل فكرة أخرى تتعلق بموقف الحركات المؤيدة للقاعدة من العنف، وأنها بطبيعتها قائمة على العنف. ويرى أنه تم تحدي هذه الفكرة بظهور جماعات في شمال إفريقيا وأوروبا، مثيرة للدهشة من ناحية تبني قادتها خطابا راديكاليا متشددا لكن أساليبهم لا تقوم عل العنف. ويعني بهذا النوع حركة "أنصار الشريعة في شمال إفريقيا" و"شريعة من أجل بلجيكا، وشريعة من أجل الدانمارك، والمهاجرون في بريطانيا، وأمة النبي في النرويج"، وجماعات أخرى مشابهة. ورغم أن الحركتين ليستا مرتبطتين، إلا أنهما تتفقان في تأييدهما للقاعدة في القول، لا الفعل.
جذور التطرف باقية
وفي نقطة أخرى، ناقش الكاتب المفهوم السائد عن صعود الجهادية وسببه فساد النخب الحاكمة في العالم العربي وبلطجية الولايات المتحدة في العالم الإسلامي. وعليه فالتصدي لهذه المسببات سيؤدي للقضاء على القاعدة. وحضر هذا النقاش في سياق الربيع العربي، حيث قيل إنه سيؤدي لإضعاف الحركة الجهادية. وكما نعرف حدث العكس. وقد يناقش البعض أن الربيع العربي لم يحقق ما أراد، وعليه فإنه لم يتم التصدي لجذور الجهادية بعد ولكن وضع الولايات المتحدة في المنطقة تغير منذ ولاية جورج بوش الأخيرة، فقد سحبت واشنطن قواتها من السعودية عام 2003، ومن العراق عام 2011، ومن أفغانستان عام 2014.
ويزعم الكاتب أن واشنطن دعمت الربيع العربي من خلال الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا، واعترافها بالإخوان المسلمين أثناء حكمهم القصير لمصر، ودعمت المعارضة السورية الضعيفة. ولم يبق من النقاش الذي يقول "أمريكا تستحق القاعدة" سوى المعتقلين في غوانتانامو وحملات الطائرات الموجهة ضد ناشطي القاعدة. وهذا يعني أن تأرجح نشاطات المتشددين صعودا وهبوطا لا يمكن فهمه من منظور عدة مظالم صغيرة بل يعبر عن دينامية أعقد مما هي ظاهرة. وربما كان اختفاء القيود التي مارستها الأجهزة الأمنية في الجمهوريات العربية دافعا من دوافع صعود الجهادية.
نظرية رابورت
ويناقش الكاتب هنا نظرية الباحث في العلوم السياسية ديفيد رابورت، حول "موجات الإرهاب" التي يرى البعض أنها صالحة لفهم الإسلاميين وتراجع التشدد الإسلامي في المستقبل القريب.
وتقوم النظرية على تقسيم الموجات إلى أربع؛ من "الموجة الدينية" التي بدأت بعد الموجة المعادية للاستعمار، واليسارية، والفوضوية. وبدأت الموجة الدينية في سبعينيات القرن الماضي. ومثل بقية الموجات، فهي في آيلة للنهاية وتبحث عن بديل. ولن يحدث هذا في العقد القادم. فالحرب السورية، تنشئ جيلا من المتشددين الذين سيتركون بصماتهم على المنطقة، ولجيل قادم. كما وتنتشر في المنطقة العديد من الحركات الجهادية ولا يبدو أنها في حالة انهيار.
وأخيرا، يناقش الكاتب الرسالة التي تقدمها الجماعات المتطرفة، حيث يفترض الباحثون أنها رسالة أيديولوجية مقنعة للأتباع وتقدم لهم المسار السياسي. وهناك من الباحثين من يركز على الرسالة الأيديولوجية، وآخرون يركزون على الرسالة السياسية. ويفترض هذا النقاش أن الجهادية استطاعت النجاة والتواصل لأنها قدمت برنامجا أكثر إقناعا من منافسيها.
ويرى الكاتب أن هناك تغيرا في التحليل الذي برز في عدد من الدراسات التي تشير إلى أن الأهمية لا تتركز في الرسالة، ولكن في طبيعة الحوافز التي تدخل في حيثياتها العواطف، مثل حس المغامرة وحس الصداقة وشعور الشخص بأنه يعيش حياة إسلامية خالصة. وهناك الكثير مما يقترح أن عملية التجنيد للقاعدة لا تقوم على التدريس والتفهيم بقدر ما يدخل في إطارها البعد العاطفي.
ويخلص إلى أن البعد الثقافي العاطفي للنشاط الجهادي لا يزال منطقة لم تحظ بالدراسة، وتقدم مجالا واعدا للبحث والتنقيب، ونحن نحاول البحث عن إجابة للسؤال عن السبب الذي أدى لانتعاش الظاهرة الجهادية ولوقت طويل.