كتب فهمي هويدي: ينبغي أن يخيفنا تراجع الثقة في
القضاء والنيابة في مصر. وهذا الخوف تجدد عندي حين تابعت مناقشات مؤتمر «الحرية لشباب
الثورة» الذي عقد بمقر نقابة الصحفيين يوم الجمعة الماضي (14/3)، وذكر فيه أكثر من متحدث أنه لم يعد في مصر قضاء ولا نيابة، وان الاثنين أصبحا تابعين لوزارة الداخلية.
ورغم أن المؤتمر ندد بعمليات التعذيب التي يتعرض له آلاف المعتقلين في أقسام الشرطة وما أطلقوا عليه «سلخانة أبوزعبل»، وهو أمر مخيف بدوره، إلا أنني اعتبرت أن فقدان الثقة في القضاء والنيابة أخوف وأخطر.
وقد تصادف أن ذلك حدث في توقيت تلقيت فيه أصداء في ذات الاتجاه، حين كتبت يوم 13/3 قصة الرجل الثاني في حكومة كوريا الشمالية الذي أصدرت إحدى المحاكم حكما بإعدامه لأسباب عدة منها انه لم يكن يصفق بحماسة في اجتماعات القيادة. وبعد النشر تلقيت عدة تعليقات سألني أصحابها عما إذا كان القضاء الكوري «شامخا» مثل القضاء المصري. وكان واضحا من السياق أن التساؤل لم يكن للاستفهام، وإنما كان على سبيل الغمز والسخرة. وهو ما أثار عندي خليطا من مشاعر الخوف والحزن، لأسباب عدة.
أولا لأنني أزعم شيوع الانطباع السلبي عن القضاء المصري وفقدان الثقة فيه بمثابة كارثة كبرى، لابد من التنبيه إلى ضرورة احتوائها وعلاجها.
ثانيا لأن لنا خبرة لم تذهب مرارتها، تعلمناها من التداعيات المترتبة على فقدان الثقة في الشرطة، خصوصا بعد ثورة 25 يناير حين لم يكن رجل الشرطة يأمن على نفسه من غضب الناس وسخطهم. وهو ما لا نريد له أن يتكرر مع رجال القضاء والنيابة. ثالثا لأن الثقة في الشرطة إذا كانت مهمة لاستتباب الأمن فإن الثقة في القضاء أهم وأخطر لأن فقدانها يمثل إهدارا لقيمة العدل التي تمثل الفرق الأساسي بين المجتمع الإنساني المتحضر وبين مجتمع الغابة الذي يحتكم إلى القوة. رابعا لأن مجتمع القضاء يمثل فضاء واسعا يضم أكثر من 15 ألف قاض، وهؤلاء بشر فيهم الصالح والطالح، مثلهم في ذلك مثل أية فئة أخرى في المجتمع.
وإذا ما حدث اختراق للبعض أو إساءة تصرف من جانبهم فينبغي ألا يؤدي ذلك إلى اتهام الجميع وتشويه صورتهم أو الغمز في قناتهم. خامسا وأخيرا لأن رجال القضاء والنيابة لا يعيشون في جزر منعزلة أو غرف معقمة ومغلقة، ولكنهم يعيشون في بيئة مجتمعية وسياسية محيطة. ويتأثرون بعوامل المد والجزر فيها. ومن الإنصاف أن يتم التحقق من طبيعة تلك البيئة ومدى نقائها قبل محاكمة القضاة الذين خرجوا من رحمها.
هذه النقطة الأخيرة محورية ومن الأهمية بمكان، وقد نبهتني إليها دراسة التجربة التركية في مرحلتها الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك) التي امتدت نحو سبعين عاما (من ثلاثينيات القرن الماضي إلى بداية القرن الحالي). ذلك أن العسكر الذين أداروا البلاد طوال تلك الفترة تحكموا في مقدراتها من خلال ركائز ثلاث هي: الأجهزة الأمنية والقضاء والإعلام. الأجهزة راقبت الجميع والقضاء تولى تمكين السلطة وتأديب العصاة، والإعلام نهض بمهمة التعبئة والتحريض وغسل أدمغة الناس.
إننا إذا طالعنا المشهد من زاوية أوسع فسنجد أن فقه الاستبداد تطور، بحيث أن الحاكم المستبد لم يعد يمارس تسلطه بفرامانات وقرارات يصدرها، ولكن ذلك كله أصبح يتم من خلال مؤسسات تأتمر بأمره، بحيث تتصدى هي لما يراد تأديبه وقمعه. بوجه أخص فإنه بعد سقوط جدار برلين وانهيار امبراطورية الاتحاد السوفييتي ارتفعت عاليا أسهم الديمقراطية في سوق السياسة. الأمر الذي اعتبر انتصارا حاسما لها ونهاية للتاريخ عند البعض. إزاء ذلك طوَّر المستبدون من أدائهم فرفعوا رايات الديمقراطية ولجأوا إلى الاحتيال عليها في الوقت نفسه. وكانت وسيلتهم إلى ذلك أنهم فتحوا الأبواب واسعة لإقامة مختلف المؤسسات والهياكل الديمقراطية، ثم فرغوها من مضمونها ومنعوها من أداء وظيفتها من خلال هيمنة رجالهم عليها.
ما يهمنا في هذا الاستطراد أن الاستبداد في صيغته المعدلة حرص على أن يضع كل مؤسسات وهياكل الدولة تحت جناحه. ولنا في ثلاثينية الرئيس الأسبق حسنى مبارك شاهد وعبرة. لأن استمرار نظامه طوال تلك الفترة أتاح له تفكيك مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة المصرية وإعادة تركيبها بحيث أصبحت جزءا من نظامه ومرتبطة بشخصه. وكانت الضحية الأولى لذلك التغول هي المؤسسات التي يفترض الدستور والقانون استقلالها، لأنها فقدت ذلك الاستقلال بمضى الوقت. ولم تنج من ذلك إلا نماذج وحالات استثنائية للغاية.
شمل الاختراق مجلس الشعب والجامعات والأحزاب السياسية والإعلام، كما نال القضاء نصيبه منه، وما قيل عن دوره في تزوير الانتخابات لا يبدو مفاجئا وينبغي أن يفهم من هذه الزاوية. علما بأن ذلك التغول لقي مقاومة مبكرة من القضاة الوطنيين، الذين رفعوا صوتهم عاليا مطالبين باستقلال القضاء في مؤتمر العدالة الأول (والأخير) الذي عقد في عام 1986. (من المفارقات أن حركة استقلال القضاء تحولت إلى «تهمة» في وقت لاحق). أريد أن أخلص إلى أمرين، أولهما أننا لا نستطيع أن نتوقع أن تتم إزالة بصمات واختراقات مؤسسات المجتمع التي تمت في ظل استبداد ثلاثين عاما خلال فترة وجيزة مثل السنوات الثلاث التي أعقبت الثورة.
الأمر الثاني أنه ينبغى ألا نتوقع استقلال مؤسسات المجتمع في ظل أوضاع ضاقت فيها أو غابت فضاءات الحرية والديمقراطية. ولئن قلت من قبل أن العدل أساس الأمن، فإنني أضيف الآن إنه لا عدل بلا حرية. وأرجو أن يعد ذلك ردا على الذين يتساءلون عن القضاء
الشامخ في مصر، وينعون إلينا غيابه.
(بوابة الشرق)