أفضت المكالمة الهاتفية التوضيحية التي أجراها الرئيس الفرنسي "فرانسوا
هولاند" بالعاهل
المغربي محمد السادس يوم الاثنين إلى التخفيف من حدة
التوتر التي شهدتها العلاقة بين الرباط وباريس لما يقارب الأسبوع، وهو التوتر الذي يرى محللون أن خلفياته لا تغادر التحركات
الجزائرية المناوئة للمغرب بالخارج، إضافة إلى تنامي الدور المغربي بالقارة الإفريقية.
المكالمة جاءت على خلفية تصريح للسفير الفرنسي في واشنطن "فرنسوا دولاتر" وصفته الحكومة المغربية بـالجارح والمهين، فضلا عما تم من استدعاء قاض للتحقيق بفرنسا للمدير العام لمراقبة التراب الوطني المغربي (الاستخبارات) عبد اللطيف
حموشي نهاية الأسبوع المنصرم بتهمة المشاركة في التعذيب، بعد دعوى رفعتها إحدى المنظمات غير الحكومية بفرنسا، وتم تسليم الاستدعاء عبر مداهمة سبعة عناصر من الشرطة الفرنسية لمقر إقامة السفير المغربي في
فرنسا.
وحسب بلاغ للديوان الملكي في المغرب، فإن هولاند ومحمد السادس تناولا الوضع الراهن للعلاقات المغربية الفرنسية، على إثر الأحداث التي شهدتها الأيام الأخيرة. وأضاف البلاغ أنه "على ضوء التوضيحات التي تم تقديمها في هذا الشأن، اتفق قائدا البلدين على مواصلة الاتصالات خلال الأيام المقبلة على مستوى الحكومتين، والعمل وفق روح العلاقات المتسمة بطابع التميز التي تجمع البلدين".
وذكر مصدر في الخارجية المغربية أن مكتب وزير الشؤون الخارجية الفرنسي استقبل في نفس يوم المكالمة سفير المغرب في باريس شكيب بنموسي، فيما أكد الناطق باسم وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية "رومان ناضال" خلال مؤتمر صحفي؛ أن وزارته طلبت كشف كل ملابسات استدعاء قاضي التحقيق الفرنسي لـ"عبد اللطيف حموشي" بأسرع وقت ممكن، نزولا عند طلب السلطات المغربية، واصفا الحادث بـ"المؤسف"، حسب ما نشر في موقع الخارجية الفرنسية.
من جهة أخرى، طالب أعضاء بمجلس الشيوخ الفرنسي، "بإلحاح"، سلطات بلادهم بتقديم "توضيحات عاجلة ودقيقة بخصوص الشكاية التي قدمتها جمعية ضد حموشي حول "تورطه المزعوم في ممارسة التعذيب بالمغرب" حسب بيان نشرته وكالة المغرب العربي للأنباء.
ووصف رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية المغربية بمجلس الشيوخ الفرنسي "كريستيان كامبون"، وأعضاء مكتب المجموعة، هذه الخطوة بـ"غير المقبولة"، مؤكدين، حسب نفس المصدر، أن "من شأن هذا الحادث الخطير وغير المسبوق المساس بجو الثقة والاحترام المتبادل بين المغرب وفرنسا".
كما أعرب الأعضاء بمجلس الشيوخ الفرنسي عن أسفهم لكون مداهمة سبعة من عناصر الشرطة الفرنسية لإقامة سفير المغرب بفرنسا"تأتي في وقت يقدم فيه المغرب دعما متواصلا لبلدنا" بمالي ومنطقة الساحل. وعبّر رئيس المجموعة عن رفضه "استخدام مساطر من هذا القبيل، والتي تتنافي وجميع الأعراف الدبلوماسية والاتفاقيات بين فرنسا والمغرب".
وتجدر الإشارة إلى أن التوتر أذكته التصريحات المنسوبة للسفير الفرنسي بأمريكا والذي شبه المغرب بـ"العشيقة التي نجامعها كل ليلة، رغم أننا لسنا بالضرورة مغرمين بها، لكننا ملزمون بالدفاع عنها". وهو ما دفع الرباط لإصدار بيان شديد اللهجة، كما أقدمت ضمن ردود الفعل الأولى على طلب تأجيل الزيارة التي كان مقررا أن يقوم بها "نيكولا هيلو" المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي لإلقاء محاضرة بالرباط حول موضوع "حماية كوكب الأرض" والالتقاء بالعديد من المسؤولين المغاربة.
الدبلوماسية المغربية النشيطة بإفريقيا تعكر الميزاج الفرنسي
في قراءة لخلفية هذه التطورات في العلاقة المغربية الفرنسية، قال الكاتب والمحلل السياسي بلال التليدي: "ليست هناك عبارة مناسبة لوصف المواقف الأخيرة التي عبرت عنها فرنسا تجاه المغرب في شخص وزارة داخليتها أولا، ثم سفيرها في الولايات المتحدة الأمريكية ثانيا، سوى أنها فقدت صوابها، ولم تعد تقدر جيدا تداعيات ما تقوم به".
وأضاف بلال في حديث لـ"عربي21": "طبعا، الكل يعلم أن فرنسا قلقة هذه الأيام، ومزاجها تجاه المغرب متغير، لذلك أقدم مسؤوليها على خرق كل الأعراف الدبلوماسية، بالتعبير عن مواقف تعكس درجة القلق الفرنسي من الدبلوماسية المغربية النشطة في إفريقيا".
وتابع التليدي حديته بالقول: "نتفهم هذا القلق الفرنسي، ونتفهم أيضا أن حجم تطلعات فرنسا في إفريقيا كان كبيرا إلى الدرجة التي لا تتقبل أن يزاحمها أحد في المجال الإفريقي، لكن فرق كبير بين أن تخطئ دولة حساباتها الاستراتيجية والدبلوماسية، وبين أن تشوه صورتها، وتبدو مثل الدولة المنفعلة التي تخطئ في الحساب وتلوم بل تسب الآخرين عن شطارتهم فيه، ففرنسا كانت تدرك أن للمغرب مصالح في إفريقيا، يزكيها العمق التاريخي والديني الذي لا تمتلك فيه فرنسا سوى الرصيد الاستعماري والهيمنة اللغوية القسرية".
وأوضح التليدي أن فرنسا تدرك أن المغرب يمتلك في إفريقيا ثلاثة مفاتيح لا تتقاسمها فرنسا كلها، التنمية والأمن، وهما مجالان مشتركان، والدين وثقافة الوسطية ومحاربة التطرف وتشجيع الاعتدال الإسلامي، وهو مجال المغرب المحفوظ الذي لا تنافسه فرنسا فيه.
المشكلة، يتابع التليدي، أن "فرنسا تريد للمغرب أن يكون جسرا لعبورها إلى إفريقيا: كاسحة ألغام، تمهد الطريق للدولة القوية، لتأخذ كل شيء، ولا تسمع المغرب بعد ذلك ولو كلمة شكر على جهوده ومساعيه الحميدة. ولذلك، حين تصرف المغرب بما تمليه عليه مصلحته الوطنية، من غير عقلية استحواذ ولا هيمنة، ارتفع الضغط الدموي لفرنسا"، حسب تعبير التليدي.
ويقول التليدي: "إن الخلفية مفهومة: هناك ضغط دموي مرتفع لفرنسا من جراء الدبلوماسية المغربية التي يقودها جلالة الملك في إفريقيا، وهناك غضب واضح من حجم الاتفاقات التي أبرمها وسيبرمها المغرب في هذه المنطقة".
التوتر مرده للتحرك الجزائري بالخارج المناوئ للمغرب
وفي منحى آخر، يرى محمد الغالي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض بمراكش، أن خلفيات توتر العلاقة مؤخرا بين الرباط وباريس مرده إلى تحرك المخابرات الجزائرية بالخارج في إطار استراتيجيتها المنبنية على مناوأة المصالح المغربية، وأيضاً تصدير أزماتها الداخلية المتعلقة بالديمقراطية والتنمية والتوزيع العادل للثروة من خلال العزف على وتر قضية الصحراء المغربية".
وتابع الغالي حديثه لـ"عربي21" بالقول إن الجزائر ارتأت أن التحرك ضد المغرب في إسبانيا فقط لم يعد يكفي، وأنها في حاجة لزعزعة علاقته القوية مع فرنسا التي تقف دائما في وجه أي مساس بالوحدة الترابية للمملكة المغربية.
وأرجع الغالي جزءا مما يحدث بين المغرب وفرنسا هذه الأيام إلى اعتبار أن الموقف الفرنسي من المغرب غير موحد، "وهذه حقيقة حقيقة لا يُراد الاعتراف بها"، فالمصالح التي تحرك الدول هي نفسها تقسم وتفرق حتى بين الفرنسيين أنفسهم، بل وتسقط بعض رجالات الدولة الفرنسية وقصر "الإليزيه" في متاهات المخابرات الجزائرية.
واستبعد الغالي حضور الأجندة الأمريكية في الموضوع، مشيرا إلى أن العلاقات التجارية بين المغرب وفرنسا جد قوية. وأضاف الأستاذ الجامعي، في مخالفة لتحليل التليدي، أن المجالات التي يلعب فيها المغرب بإفريقيا لا يمكن أن تكون محل قلق من طرف فرنسا، وعليه "فإن والمغرب لا يهدد فرنسا في نفوذها بإفريقيا".