قوانين السوق الدولية مستعدة لبيع كل شيء الى بغداد، باستثناء الحكمة، بل ان في معادلات العرض والطلب، ما ينقض غزل الحكماء، ويزيد من طمع الحمقى. وبعد ان قطعنا شوطاً في الوقوع بأخطاء الترجمة عند التعامل مع رسائل موسكو وواشنطن والاتحاد الاوربي وبان كي مون، حان الوقت لكي ندخل اللحظة
الصينية، لا على وقع بطيء متفحص للتنين التراثي، بل بنكهة
الحصان السريع!
ان السيد وانغ يي، وزير خارجية الصين، استعان حتى بذكريات طفولته وبمعاني التنجيم الاسيوي، ليرتب زيارته للعراق، في سنة "الحصان" الصينية التي ترمز الى "السرعة" عارضا خدمات بلاده في
"تسريعنا" ضمن مجالات عدة تبدأ بالتسليح ولا تنتهي بأحلام اعادة الاعتبار لطريق الحرير التاريخي.
ولا ادري لماذا تذكرت، وانا اتابع مقتطفات من تصريحات وانغ يي، زيارة قام بها اردوغان مطلع 2011، الى بغداد. فقد اضطر الرجل وهو يخاطب برلماننا، حتى الى الغناء، اذ قام بغناء نشيد "موطني" باللغة العربية، كأي مدير مبيعات شاطر يحاول اقامة علاقة دافئة مع زبائنه. وكان السيد الجعفري يصفق بحرارة وهو يرى اردوغان يغني، ثم يردد مثلا تركياً "لا حبيبة كالأم ولا ديار كبغداد".
وبمثل هذه السياسة الانفتاحية التي لم تنفع اردوغان في النهاية، جاء السيد وانغ يي، وزير خارجية الصين، ليقدم استعراضاً تاريخياً للعلاقات، وعادت الذاكرة بالوزير الصيني الى الخمسينات، يوم كان طفلاً في الصفوف الاولية، وكانت معلمته (الصينية طبعاً) تقول للتلاميذ: عليكم ان تتناولوا التمر العراقي المستورد! وحين سألها الوزير الطفل عن السر وراء ذلك والفوائد الغذائية المترتبة عليه، اجابت المعلمة بما سيظل عالقاً في ذاكرة وانغ يي وهو يواجه المالكي بعد خمسين عاماً في عاصمة النخيل المحترق، فقالت حسبما يتذكر الوزير: على الصينيين ان يتناولوا تمر العراق لدعم هذا البلد التحرري الثوري!
ولأن التمر العراقي لم يعد يكفي اهل الصين، لأنه ليس كافياً حتى لإطعام البصرة هذه الايام، فإن الوزير يقترح على المالكي طرقاً جديدة لدعم بلدنا "الثوري التحرري"، وقد لف الوزير ودار وتحدث عن طريق الحرير القديم، وذكر أن الصين تسعى لبناء حزام اقتصادي لطريق الحرير البحري، "فالعراق يقع في منطقة تلاقٍ لطريقي الحرير البري والبحري القديمين ويجب على جانبينا مواصلة بناء طريق الحرير القديم". ويبدو ان احد مستشاري المالكي سأل الوزير الصيني عن سبب كل هذا الحماس المفاجئ والسريع، فلم يحر تنين الدبلوماسية جواباً وذكر لهذا المستشار ان "هذا العام يعتبر عام الحصان للتقويم القمري الصيني، ونحن نأمل مضاعفة السرعة وتحقيق تقدم أكثر في العلاقات الصينية العراقية" لأن الحصان رمز للخطوات المتواترة بلا هوادة.
حينها حانت "لحظة الحقيقة" وبان الغرض من كل حكايات الطفولة والتمر والثورة والحصان وجغرافيا دودة القز، وقال الوزير الصيني ان بلاده مستعدة لسد اي نقص في الاسلحة يشعر به المالكي، نتيجة تردد واشنطن وبرلمانها، او فساد موسكو ومافياتها، والترسانة الصينية بخدمة كل الدول "النفطية" التي يقول صديقنا الباحث حارث الحسن، انها تفشل دوماً في صناعة الامن فتبحث عنه في الاسواق وعبر شراء نهم للدبابات والطائرات. وسيمكن للعراق بشكل خاص مقايضة ذاكرة التمر المطعمة بنكهة النفط، بسلاح ملفوف بالحرير الصيني، محاولاً شراء أمان عاجز عن صنعه.
لقد تذكر الرجل الصيني كل شيء، لكنه تشاغل بذكريات الطفولة، عن حقيقة ان العراق هو الاكثر شراء للاسلحة طيلة قرن، ومع ذلك فقد بقي مفتقداً للشعور بالامان.
ان اسواق العالم وكل طرق التجارة العتيقة، بإمكانها ان تزودنا بكل ما نطلب، ويمكن للصين ان تجعلنا مخلوقاً صينياً بامتياز، لكن الشيء الوحيد الذي لا يباع في الاسواق هو الحكمة، التي برع في نسجها فلاسفة صينيون قدماء، لم يتجرأوا على زيارة بغداد.
(المدى)