مع انتهاء عام 2013، نقلت قناة «بي. بي. سي» نتائج الاستطلاع الذي أجرته المؤسسة الدولية «وين/غالوب» حول السؤال التالي: «ما هو البلد الذي يفترض بالنسبة إليك أكبر خطر على
السلام في العالم اليوم؟» وحلّت الولايات المتحدّة في المرتبة الأولى بنسبة عالية بعد أن حصلت على أصوات فاقت بثلاث مرات الأصوات التي حصلت عليها باكستان، التي احتلت بدورها المرتبة الثانية.
في المقابل، يدور النقاش في أوساط المثقفين والصحفيين الأميركيين حول وجوب احتواء إيران، وحول الحاجة إلى نظام المراقبة لوكالة الأمن القومي بهدف حماية أمن الولايات المتحدّة. وكشف الاستطلاع عن وجود أسئلة أكثر ارتباطاً بالموضوع مثل السؤال التالي: هل يمكن احتواء الولايات المتحدّة وحماية الدول الأخرى من الخطر الأميركي؟
في بعض أنحاء العالم، تحتل الولايات المتحدّة مراتب أعلى لجهة الخطر الذي تشكله على السلام في العالم لا سيّما في منطقة الشرق الأوسط، حيث تعتبر الأكثرية الساحقة من الأشخاص، الولايات المتحدّة وحليفها المقرّب منها إسرائيل أكبر خطر يواجهونه وليس إيران التي تعدّ خطراً على السلام بنظر أميركا وإسرائيل.
ومن المرجح أن يشكك عدد قليل من شعوب أميركا اللاتينية في رأي البطل الوطني الكوبي "خوسيه مارتي"، الذي كتب عام 1984 أنه «كلما تمّ الابتعاد عن الولايات المتحدّة كلما كان شعب أميركا اللاتينية حراً وأكثر ازدهاراً». وتأكّد رأي «مارتي» هذا في السنوات الأخيرة من خلال تحليل لمستوى الفقر أجرته المفوضية الاقتصادية لدول أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي التابعة للأمم المتحدّة، والذي نُشر خلال الشهر الماضي.
ويُظهر تقرير الأمم المتحدّة أنّ الإصلاحات الواسعة النطاق قلّصت الفقر في البرازيل والأوروجواي وفنزويلا، وفي بعض الدول بشكل كبير حيث التأثير الأميركي ضئيل، إلا أنها لا تزال سيئة جداً في دول أخرى لا سيما تلك التي كانت خاضعة للهيمنة الأميركية مثل جواتيمالا وهندوراس. وحتى في دولة المكسيك الثرية المنضوية تحت اتفاقية التجارة الحرة لمنطقة شمال أميركا، يعدّ معدّل الفقر مرتفعاً جداً مع الإشارة إلى ازدياد عدد الفقراء في عام 2013 بنسبة مليون شخص.
أحياناً، تقرّ الولايات المتحدّة بشكل غير مباشر بالأسباب التي تدعو العالم إلى القلق كما حصل، حين اعترف «مايكل هايدن» المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات الأميركية في معرض مناقشة حملة أوباما القاتلة بوساطة الطائرات من دون طيار: «الآن، ما من حكومة على وجه الأرض توافق على منطقنا القانوني لإجراء هذه العمليات باستثناء أفغانستان وربما إسرائيل». وقد يشعر أي بلد طبيعي بالقلق حيال الطريقة التي ينظر بها العالم إليه، ولا شك في أنّ هذا الأمر ينطبق على بلد ملتزم «باحترام آراء البشر» على حدّ تعبير الآباء المؤسسين، إلا أنّ الولايات المتحدّة ليست بلداً طبيعياً، فهي تملك الاقتصاد الأقوى في العالم منذ عقد ولم تواجه أي تحدٍّ حقيقيّ لهيمنتها العالمية منذ الحرب العالمية الثانية على رغم تراجعها الذي جنته على نفسها جزئياً.
تدير الولايات المتحدّة التي تعي جيداً مفهوم «السلطة الناعمة» حملات أساسية لـ«الدبلوماسية العامة» (أي الحملة الدعائية) بهدف تقديم صورة إيجابية عنها مترافقة أحياناً بسياسات تستحق العناء ومرحب فيها. لكن حين يستمر العالم في الاعتقاد بأنّ الولايات المتحدّة تمثل أكبر خطر على السلام، نادراً ما تنقل وسائل الإعلام الأميركية هذا الواقع.
وتعدّ القدرة على تجاهل وقائع غير مرغوب فيها إحدى صلاحيات
القوة التي لا يمكن تحديها فضلاً على امتلاك الحق في مراجعة
التاريخ. والمثال الحالي على ذلك هو التذمر من تفاقم النزاع السُني- الشيعي، الذي يقسّم منطقة الشرق الأوسط لا سيما في العراق وسوريا. فيما يتركّز الموضوع السائد في التعليقات الأميركية على كون هذه الأزمة نتيجةً لانسحاب القوات الأميركية من المنطقة، وهي عبرة في مخاطر «الانعزالية»، أما العكس فصحيح. تعد جذور النزاع داخل الإسلام عديدة ومتعددة، لكن لا يمكننا تجاهل واقع مفاده أنّ الانقسام تفاقم جراء الغزو الأميركي-البريطاني للعراق. ولا يمكن أن نكرّر بأنّه تمّ تحديد هذا الهجوم في محاكمات نورمبيرج على أنه «جريمة دولية عليا» مختلفة عن الجرائم الأخرى التي تشمل الأضرار كافة بما فيها الكارثة الحالية.
أما التجسيد الواضح لهذا الانقلاب السريع في التاريخ، فهو ردّ الفعل الأميركي إزاء الوحشيات التي ترتكب حالياً في الفلوجة. فيما الموضوع السائد هو الألم غير المجدي، الذي تكبده الجنود الأميركيون جرّاء تضحياتهم بعد أن حاربوا وماتوا من أجل تحرير الفلوجة. وإذا تمّ النظر إلى التقارير الإخبارية المرتبطة بالهجمات الأميركية على الفلوجة عام 2004، يتبيّن أنها كانت من بين جرائم الحرب الأكثر عنفاً وسوءاً.
وتقدّم وفاة نيلسون مانديلا مناسبة أخرى للتفكير في الوقع الكبير الذي خلّفه ما سمّي بالهندسة التاريخية والمتمثلة بإعادة كتابة وقائع التاريخ لخدمة حاجات السلطة.
وحين حصل مانديلا أخيراً على حريته، أعلن أنه «خلال السنوات التي أمضيتها في السجن، كانت كوبا مصدر إلهامي وفيديل كاسترو برج قوة. هدّمت الانتصارات الكوبية أسطورة عدم إمكان هزيمة المعتدي الأبيض وألهمت الحشود المتقاتلة في جنوب أفريقيا، ما شكّل نقطة تحوّل لتحرير قارتنا وشعبنا من وباء التمييز العنصري، أي بلد آخر قادر على إبراز سجل فاق فيه تضحيته تلك التي قدمتها كوبا إزاء علاقاتها مع أفريقيا؟".
واليوم تمّت كتابة أسماء الكوبيين الذين ماتوا وهم يدافعون عن أنجولا، وهم يتحدّون المطالب الأميركية بالرحيل عن البلد، على "جدار الأسماء" في منتزه الحرية في بريتوريا. كما لم يتمّ نسيان آلاف عمّال المساعدة الكوبيين الذين دعموا أنجولا على حساب كوبا.
أما النسخة التي وافقت عليها الولايات المتحدّة فمختلفة تماماً. ومنذ الأيام الأولى التي تلت موافقة جنوب أفريقيا على الانسحاب من ناميبيا المحتلة بشكل غير شرعي عام 1988، والذي مهّد الطريق أمام وضع حدّ لنظام التمييز العنصري، أشادت صحيفة "وول ستريت جورنال" بهذه النتيجة معتبرة أنها "إنجاز رائع" للدبلوماسية الأميركية وإحدى أهم الإنجازات التي حققتها إدارة ريجان في السياسة الخارجية.
وتمّ ذكر الأسباب التي دفعت مانديلا وشعب جنوب أفريقيا إلى رؤية صورة مختلفة تماماً، في بحث "بييرو غليسيس" بعنوان "رؤيا الحرية: هافانا وواشنطن وبريتوريا والنضال من أجل جنوب أفريقيا 1976-1991". وبرهن "غليسيس" على أنّ الاعتداء والإرهاب على جنوب أفريقيا واحتلالها ناميبيا أنهيا "القوة العسكرية الكوبية" المترافقة مع "مقاومة سوداء شرسة" داخل جنوب أفريقيا وشجاعة العصابات الناميبية.
فازت قوى التحرير النامبية بسهولة بانتخابات عادلة حين تمّ إجراؤها. وفي الانتخابات التي جرت في أنجولا، فازت الحكومة المدعومة من كوبا فيما استمرت الولايات المتحدّة في دعم الإرهابيين المعارضين هناك، حتى بعد أن تمّ إجبار جنوب أفريقيا على التراجع.
في نهاية المطاف، بقي مؤيدو ريجان وحيدين في دعمهم القوي لنظام التمييز العنصري، وللخراب القاتل في الدول المجاورة. وعلى رغم أنه قد يتمّ محو هذه الفترات المخزية من التاريخ الأميركي الداخلي، من المرجح أن يفهم أشخاص آخرون كلمات مانديلا. وفي هذه الحالات، وفي حالات عديدة، تقدّم القوة العظمى حماية ضد الحقيقة إلى حدّ معيّن.
(الاتحاد الإماراتية)