تفرض
العقدة الطائفية نفسها في كل ورقة من أوراق الملف العراقي منذ سقوط بغداد على يد الغزاة الأميركان وإلى اليوم، حيث حصل انقسام حاد بين المكونات العراقية الرئيسة، فالشيعة تعاونوا مع الاحتلال واعتبروه فرصتهم التاريخية للانطلاق بمشروعهم الكبير والعابر للحدود القطرية والقومية، والكرد انحازوا لقوميتهم وإقليمهم وقد نجحوا ببناء تجربتهم الخاصة على مختلف الصعد، أما السنّة العرب فقد تحملوا وحدهم مقاومة الاحتلال حتى تمكنوا من طرده, في منازلة لم تكن متكافئة ولا متوازنة بكل المقاييس.
ومع أن هذا الواقع لا يكاد يختلف عليه اثنان، غير أن الخطاب السياسي للسنة كان مرتبكا، فمنهم من يرى تسمية الوقائع بأسمائها فيقول: إنها مقاومة سنّية، ومنهم من يصر على تجاوز الوقائع الملموسة والمشاهدة ليقول: إنها مقاومة شعبية أو وطنية عامة! ثم يذهب ليلتقط حادثة من هنا وتصريحا من هناك ليعزز به موقفه، مع أن الشيعة لم يكتفوا بالوقوف على التل في تلك المنازلة, بل دخلت ميليشياتهم جنبا إلى جنب مع المارينز في الفلوجة والرمادي وكل المناطق السنّية, وبمباركة مراجعهم وقيادتهم المعتبرة.
بعد ملف المقاومة جاء ملف آخر وهو ملف الحراك، حيث انتفضت المحافظات السنية الست (بغداد والأنبار وديالى والموصل وصلاح الدين وكركوك)، ورغم كل الجهود الاستثنائية التي بذلها بعض السنة الحالمون بالوحدة الوطنية لتحريك شيء ما في الجسد الشيعي إلا أن محاولاتهم انتهت إلى لا شيء، وتبين للقاصي والداني أن الاتصالات والوعود من قبل بعض المراجع أو شيوخ القبائل من الشيعة (العروبيين) أو (الوطنيين) لم تكن سوى دعاية مضللة لا وزن لها على الأرض، أو أن المجتمع الشيعي قد لفظهم وانحاز بقوة إلى مراجعه وقياداته الطائفية المعروفة.
استمر الحراك ما يزيد على السنة والموقف هو الموقف، حتى قرر المالكي إنهاء هذا الملف بالقوة, وهدد ببحر من الدم بين من وصفهم بمعسكر الحسين ومن وصفهم بمعسكر يزيد! وجاء تصريحه هذا في أربعينية الحسين في كربلاء وأمام مرأى ومسمع الشيعة بمراجعهم وسياسييهم ومثقفيهم دون نكير.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الحراك في الأصل لم ينطلق في المحافظات الست من أجل رفع الظلم العام والفساد الحكومي في الخدمات ونحوها، حيث كانت مصيبة السنّة أكثر بكثير، فهم يشعرون بأنهم مستهدفون في عقيدتهم وتاريخهم وكرامتهم وأعراضهم وفي أصل وجودهم، وهذا هو الذي دفعهم لهذا الثبات والإصرار ومواجهة كل التهديدات التي يطلقها المالكي بمناسبة وغير مناسبة، وقد دفعوا دما غاليا في الحويجة وديالى والفلوجة وغيرها، ومع كل هذا تجد بعض العلماء والسياسيين السنّة يصرون على تسمية الحراك بالحراك الشعبي الوطني الذي لا يفرق بين السنّي والشيعي، وأن المشكلة كلها منحصرة في شخص اسمه (نوري المالكي) وبعض الميليشيات والانتهازيين من الساسة!
نفّذ المالكي وعيده بحق من أسماهم (معسكر يزيد) وبدأت منازلة جديدة بين جيش المالكي وميليشياته من جهة وبين أهالي
الأنبار من ناحية أخرى، وكالعادة صدرت البيانات التقليدية من بعض علماء السنّة بمناشدة مراجع الشيعة وشيوخ القبائل الشيعية (العروبية والوطنية) بضرورة الوقوف مع أهل الأنبار وكل (الشعب العراقي) ضد (حكومة المالكي الفاسدة)، وهو ذات الخطاب الذي يكرره هؤلاء دون ملل من 9/4/2003 وإلى اليوم، رغم أن الطرف الآخر كأنه مصاب بالصمم، والحقيقة أن اللغة بين الطرفين لم تعد مفهومة، فأولئك لهم مشروعهم الزاحف من طهران إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا والبحرين، ويشعرون أن الوقت وقتهم والعصر عصرهم، وهؤلاء يخاطبونهم بمفردات (التربية الوطنية) ومفاهيم (سايكس بيكو).
إن عقدة الخوف من الطائفية ما زالت تتحكم في بعض الخطاب السنّي حتى تحولت إلى حالة مَرَضيّة تصيب صاحبها بالعمى والصمم عن كل من حوله وما حوله، فهذه العقدة غدت عند هؤلاء هي وحدها مقياس الحق والباطل والخير والشر والصواب والخطأ والمصلحة والمفسدة، فالمهم عندهم ألا يتهمهم أحد بالطائفية حتى لو كان بسبب توصيفهم للواقع لا أكثر، ويا حبّذا لو قدموا لنا تعريفا علميا لمصطلح (الطائفية) خاصة بعد أن أصبح الحاكم على كل القيم والمبادئ والسلوكيات.
إن الأمر قد تجاوز إشكالية المصطلحات وأبعادها المعرفية والثقافية وحتى السياسية إلى حالة من الضياع والتضييع لكل ما يمكن أن نجمعه من أسباب الحل وأدوات الخروج من هذا المأزق التاريخي الخطير الذي نمر به، ومن ذلك:
أولا: فقدان السنّة العرب لأي مشروع جامع وقادر على توحيد كلمتهم، حيث إن مجرد التفكير بهذا لا يخلو من شبهة الطائفية، وفي المقابل تجد الشيعة يتجمعون تحت اسم (البيت الشيعي), والكرد يتجمعون تحت اسم (إقليم كردستان)، والسنة حرام عليهم أن يفكروا لا بالبيت السني ولا بالإقليم السني، ولا ندري ما الاسم الذي يمكن أن يجمعهم؟ وهذا معناه أن السنة سيبقون في هذا الشتات عن رغبة منهم, على أمل انبثاق حكومة وطنية عادلة تجمعهم من جديد مع الشيعة والكرد من دون تفاضل أو تمايز!
ثانيا: ضياع الجهد المقاوم الذي قدّم فيه السنّة الدماء والجراح والخراب والدمار لهم ولمناطقهم من أجل طرد الغزاة، وقد قدموا على مدار سنيّ المقاومة العصيبة ما تنوء به الجبال، وقد كان بإمكانهم أن يستثمروا هذا الجهد الاستثنائي في فرض شروطهم لتحقيق التوازن والمشاركة الفاعلة في بناء النظام السياسي وأجهزة الدولة المختلفة، لكن هذا يتطلب أن تتكلم المقاومة بالهم السنّي وشروط السنّة في المشاركة والبناء، وهذا من شأنه في نظر البعض أن يشوّه سمعة المقاومة ويحوّلها من (مقاومة وطنية) إلى (مقاومة طائفية)! وبالتالي من الأفضل التركيز على تحرير البلاد من الاحتلال ولو خرجنا صفر اليدين، وهذا لا أقوله على سبيل التحليل والافتراض، بل هي حقائق ومعلومات وحوارات ومجادلات استنزفت الكثير من الجهد والوقت، وما يقال عن المقاومة يقال أيضا عن الحراك وربما سيقال عن ثورة الأنبار أيضا.
ثالثا: خسارة السنّة لمجدهم وتاريخهم، حيث قام هؤلاء بتضخيم الجانب السلبي عند السنّة كإخفاقات الساسة وجرائم الصحوات وهفوات بعض الرموز العلمية أو العشائرية، وفي الوقت ذاته يقومون بتضخيم إيجابيات الشيعة وغض الطرف عن سلبياتهم أو التهوين منها، حتى لو كان هذا بالكذب الصريح والتزوير العمد، فمثلا يتم التركيز على إدانة السياسيين السنّة لمشاركتهم في العملية السياسية بينما التيار الصدري يغض الطرف عنه مع مشاركته المبكرة في هذه العملية نفسها، وقد جمع إلى هذا حرقه لمساجد السنّة في بغداد وغيرها، وشتمه المتكرر لأبي بكر وعمر، كل هذا لصناعة صورة من نسج الخيال مفادها أن السنّة فيهم الحسن والقبيح والوطني والعميل, وكذلك الشيعة سواء بسواء، وحتى الظلم الذين يتعرضون له من قبل حكومات الاحتلال المتعاقبة هو ظلم واحد وموزع على الفريقين بالعدل! وبهذا ضاعت مظلومية السنّة الحقيقية التي تهدد هويتهم وعقيدتهم وأصل وجودهم.
ربما لو كان هؤلاء في عصر هولاكو لكتبوا التاريخ بطريقة أخرى, فابن العلقمي قد يكون في نظرهم عميلا أجنبيا مندسا باسم التشيع لإثارة الفتنة بين مكونات الشعب الواحد، أو لركزوا على خائن سنّي مغمور وهزيل بحيث لا يذكرون ابن العلقمي إلا ويذكرون هذا معه حتى لا يقال عنهم إنهم مؤرخون طائفيون.
(العرب)