يطلّ عام 2014 على العالم العربي وهو في وضع غير مطمئن، كي لا نستخدم تعبيرا أكثر إحباطا.
الأزمة السورية، التي تكمل خلال أقل من ثلاثة أشهر سنتها الثالثة، كشفت الكثير إلا للمكابر أو المتحامل أو الغبي. وغدا من الضروري الإقرار بأن منطقة المشرق العربي، بالذات، تواجه اليوم مستقبلا مفتوحا على كل الاحتمالات.
مشاعر الخوف والغضب، ومعها نبش الأحقاد الدفينة وتنامي الشعور بالغبن، مظاهر تغذيها هذه الأيام مطامع إقليمية زاحفة بعناد تسود منطقتي بلاد الشام والخليج العربي. كذلك نلحظ كيف سمح انعدام الحسّ بالمسؤولية والوازع الأخلاقي عند المجتمع الدولي بتحويل انتفاضة شعبية كان من المتيسّر رعايتها وتعهدها بحد أدنى من الردع في سوريا.. إلى "حرب كونية ضد الإرهاب" كما يريدها قيصرٌ روسي جديد، وشريكٌ صيني متواطئ يشاطره سعيه الدؤوب إلى كسر حالة "الأحادية القطبية" التي تمتّعت بها الولايات المتحدة الأميركية بعد انتصارها في "الحرب الباردة".
أما "القطب الواحد"، فيبدو أنه تعِب من أعباء هذه المكانة وأقنع نفسه بأنه غير مؤهّل لها. والحال أنه إذا ما اختارت الولايات المتحدة "الاستقالة" من موقعها والتخلّي عن مناطق نفوذها.. ودعوة الآخرين لمشاركتها فيها بعد إحالة نفسها إلى التقاعد، فكيف يمكن إقناعها بعكس ذلك؟
هذا واقع لا يستطيع أحد تغييره إلا الناخب الأميركي عبر صناديق الاقتراع. فهو إذا شعر أن قيادته قاصرة ومقصّرة.. فإنه سيبادر إلى سحب ثقته منها وإسقاطها في الانتخابات التالية.
هذا ما فعله الأميركيون في عزّ الحرب الباردة عندما اعتبروا جيمي كارتر قائدا ضعيفا، وحكموا بأن مثاليته أقرب إلى السذاجة منها إلى الحكمة في التعامل مع الأخطار الخارجية. ومع أن كارتر - في رأيي الشخصي - أفضل وأنبل بمراحل من رونالد ريغان كإنسان وكسياسي، فلقد أدى سوء قراءته لواقع الأمور إلى تعرّضه لهزيمة مريرة وتولّي "صقور" الجمهوريين السلطة. وكما نعرف نجح هؤلاء خلال فترة وجيزة في إسقاط الاتحاد السوفياتي بعدما جرّوه إلى حرب إنفاق تسلّحي ما كان له طاقة بها. وفتحوا عليه عدة حروب إقليمية كبّلته وأنهكته إلى أن خرج من قيادته السياسية المترهّلة زعيمٌ عديم الحكمة اسمه ميخائيل غورباتشوف، استسلم لهجومية ريغان بلا قيد أو شرط. وفي نهاية المطاف أشرف على انهيار الدولة السوفياتية التي كان يزعم الرغبة في تحديثها.
في واشنطن اليوم نسخة جديدة من كارتر اسمها باراك أوباما، الذي أسهم في فوزه بولاية رئاسية ثانية عاملان: الأول، خوف الأميركيين من انحسار "شبكة الأمان" الاجتماعية والصحية التي تغطّيهم في خضمّ أزمة اقتصادية ومالية طاحنة. والثاني جنوح الحزب الجمهوري المنافس إلى التطرّف الآيديولوجي الجامح بعدما اختطفت جماعة "حفلة الشاي" المُغالية في يمينيّتها قطاعا مؤثرا فيه.
هذان العاملان الداخليّان، معطوفا عليهما تعب الأميركيين من شراسة إدارة جورج بوش الابن في سياستها الخارجية العدوانية، أقنعا أوباما بأهمية الانكفاء إلى الداخل، والتخلّي عن أي دور نشط في مجال السياسة الخارجية. وها هو المشرق العربي يدفع راهنا ثمنا باهظا لسياسة أوباما، التي انكشف أنها في "فكرها الإنساني" لا تعني إطلاقا ما تقوله، بل لا تؤمن به أصلا.
أوباما في الخطاب الشهير الذي ألقاه في القاهرة مطلع يناير (كانون الثاني) 2009، رفع شعار "بداية جديدة" ووعد المنطقة بالكثير. وتوهّم مستمعوه حقّا أن "مثالية" الرجل وثقافته السياسية كفيلتان باعتماده مقاربة عميقة لجذور مشكلات العالمين العربي والإسلامي. غير أنه سقط عند أول عقبة أمام التصلب الليكودي الإسرائيلي.
وبعدها ترنّحت المسيرة.. وانهارت تماما مع الصفقة المعقودة مع إيران خِفية عن أصدقاء واشنطن في العالم العربي، بما فيها - على الأرجح - التواطؤ على مصير الشعب السوري عبر التفاهم مع روسيا.. بعد مأساة حصدت حتى الآن، وفق مصادر يعتدّ بها، أكثر من 220 ألف قتيل ومفقود، وعشرة ملايين نازح ولاجئ. الأرقام المتفّق عليها تفيد بأن أكثر من 60 ألف سوري قتلوا خلال عام
2013 وحده.
ومع العدّ التنازلي لانعقاد مؤتمر "جنيف 2"، تجاهلت واشنطن تصعيد نظام بشار الأسد سياسة "الأرض المحروقة" التدميريّة. وصمتت عن دعوات موسكو المتكرّرة لضرورة جعل "جنيف 2" مؤتمرا يركّز على "محاربة الإرهاب" بدلا من تخصيصه لتنفيذ تفاهمات "جنيف 1" بشأن انتقال السلطة سلميّا في سوريا. بل، أكثر من هذا، أشاحت واشنطن بوجهها تماما عن خوض إيران الحرب مباشرة على الأراضي السورية عبر 25 تنظيما شيعيا من مختلف أنحاء العالم على رأسهم "حزب الله" اللبناني ومقاتلي 15 جماعة عراقية في مقدمها "لواء أبو الفضل العباس" و"عصائب أهل الحق" عدا عن الزمر اليمنية والأفغانية والباكستانية وغيرها. وطبعا، ارتاحت واشنطن لارتياح إسرائيل إلى مصير السلاح الكيماوي السوري.. الذي تبين أنه كان يُكدّس لغاية قتل السوريين لا غير. كذلك صدر عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين سابقين، وفي الخدمة الفعلية، كلامٌ عن تفضيل بقاء الأسد في سدة الحكم في سوريا لأنه "أفضل" من سيطرة الجماعات الأصوليّة والجهاديّة على البلاد!
بقاء الأسد في السلطة، على ركام سوريا وعلى جثث أبنائها، خيارٌ لا أحسب أن السوريين أو العرب أو المسلمين سيقبلون به مهما كلّف الأمر. وأزعم أن هذا التوجّه سيُفضي عاجلا أو آجلا.. أولا إلى نشوء بيئة يائسة متطرّفة وحاضنة طبيعية للإرهاب، وثانيا إلى تقسيم المنطقة وتفتيتها.
إن ما يحدث في سوريا، بالتزامن مع عودة مسلسل جرائم التصفيات السياسة الدموية في لبنان، والممارسات الطائفية المكشوفة للحكم العراقي الذي دعمت واشنطن مجيئه إلى السلطة، يؤكد أن حدود كيانات المشرق العربي التي رسمت عام 1920 تهتزّ وتتلاشى. وتلاشي هذه الحدود سيعني إما هيمنة "وصاية إيرانية - إسرائيلية مشتركة"، أو التقسيم الفئوي المغمّس بالدماء والدموع والأحقاد.
كل هذا لأن الإدارة الأميركية الحالية لا تميّز مُطلقا بين "الشراسة" العدوانية و"القيادة" المسؤولة.