في إطار عملية الجرد التي تتم في نهاية كل عام ومستهل عام جديد استوقفني كم السهام والاتهامات التي وجهت إلى
الربيع العربي في عدد غير قليل من الصحف العربية.
كثيرون تحدثوا عن فشله وكثيرون شككوا في دوافعه واعتبروه جزءا من
مؤامرة أمريكية استهدفت إعادة رسم خريطة المنطقة، توسلت بالفوضى الخلاقة لإقامة الشرق الأوسط الكبير.
وهؤلاء وهؤلاء وأمثالهم استشهدوا بما حل بالعالم العربي من اضطرابات وصراعات، منذ لاحت نذر ذلك الربيع الذي وصفه البعض بالمشئوم على أيدي من وصفوا في الصحافة المصرية على الأقل بأنهم عملاء السفارات الأجنبية والمرتزقة وأطفال الشوارع.
لم أستغرب لغة الهجاء ولا منطق الشيطنة والتخوين الذي استصحب فشلنا في إدارة أي حوار جاد، وتسرعنا في تحويل أي خلاف إلى صراع واشتباك تستباح فيه الكرامات والأعراض. ورغم أن ذلك مما يؤسف له لا ريب، إلا أنني معنيّ في الوقت الراهن بموضوع الحملة الأخيرة، الذي أسجل عليه أربع ملاحظات. إحداها في الشكل والباقي في الموضوع.
من حيث الشكل لاحظت تعدد مصادر الهجوم المذكور، فبعضها تبنته منابر تعبر عن أنظمة ناصبت الربيع العربي العداء منذ لحظاته الأولى خشية أن تنتقل شرارته إلى داخل حدودها. وبعضها ينتسب إلى الأنظمة التي سقطت أو تلك التي تخلخلت قواعدها واهتزت عروشها. وبعضها يعبر عن فئات صدمها فوز التيارات الإسلامية في الانتخابات التي جرت في بعض الأقطار فانحازت إلى مربع الخصوم والناقمين وأبدت استعدادا لتجريح وإفشال التجربة بأي ثمن، حتى لو أدى ذلك إلى تحالفها مع الشيطان.
ولا يخلو الأمر من أناس تسرعوا في الحكم على التجربة وخاب أملهم فيما علقوه عليها من آمال. ومنهم من وجد في بعض الأخطاء التي وقعت من جانب الأنظمة الجديدة ــ في مصر بوجه أخص ــ ما دفعهم إلى اليأس والانتقال إلى معسكر الضد، المخاصم والمناوئ.
وإذا كانت تلك هي المصادر الظاهرة في حملة التنديد والهجاء، فإنها لا تنفي وجود مصادر أخرى خفية، تندرج فيها كل الأطراف التي يسوؤها ويهدد مصالحها أي نهوض في العالم العربي أيا كان مصدره، وهذه المصادر سأترك تقديرها لخيالك وخبراتك.
ملاحظاتي الثلاث في الموضوع ألخصها فيما يلي:
(1) إننا نظلم الربيع العربي ظلما بينا إذا توقعنا ثماره أو حاكمناه بعد سنتين أو ثلاث من انطلاقه. فذلك لم يحدث في أي تجربة مماثلة في التاريخ المعاصر، حيث لم نعرف ثورة آتت أكلها قبل سبع أو عشر سنوات من قيامها، ولن أتحدث عن الثورة الفرنسية أو الروسية أو الإسبانية، التي لم تستقر لها الأوضاع إلا بعد عشرات السنين.
وإذا وضعت في الاعتبار أن الانتفاضات الشعبية تخرج عامة من رحم الغضب الذي خلفته أنظمة استبدادية وفاسدة، فإن الأنظمة الجديدة تحتاج إلى وقت لإزالة آثار الظلم والفساد، ثم إنها تحتاج إلى وقت لكي تتعلم كيف تحقق الحلم الذي تطلع إليه الشعب. ولا ينبغي أن يتوقع أحد أن يولد النظام الجديد كامل الأوصاف، لأنه في أغلب الأحوال يولد مشوها ويعاني النقائص. ومن ثم فهو يحتاج إلى وقت لكي يصوب أخطاءه ويحسن إدارة الوضع المستجد.
(2) إن ثمة خطأ شائعا بمقتضاه يحصر البعض الربيع العربي في الأقطار التي تغيرت أنظمتها فقط، لأن رياحه غيرت في الإنسان العربي بأكثر مما غيرت في الأنظمة العربية. أعني أن أهم وأخطر ما في الربيع أنه أحدث نقلة نوعية في وعي المجتمعات العربية التي اجتاحتها الرغبة العارمة في التغيير، واختارت أن تعلن رفضها للظلم السياسي والاجتماعي. وعبرت عن ذلك الخيار بوسائل شتى تراوحت بين تسجيل المواقف والإعراب عن الغضب عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبين حمل ذلك الغضب إلى الشوارع والميادين، كما تراوحت بين الدعوة إلى إصلاح بعض الأنظمة وبين الإصرار على إسقاطها في أنظمة أخرى.
بسبب من ذلك فإن فشل بعض الأنظمة التي قامت خلال السنوات الثلاث الأخيرة أو تعثر البعض الآخر، لا ينبغي أن يستقبل بحسبانه نهاية للربيع أو شهادة تعلن وفاته، ليس فقط لأن ذلك يعد من قبيل التجاذبات والتقلبات المتوقعة، ولكن أيضا لأن آفاق الربيع تتجاوز بكثير حدود أربعة أقطار عربية أو خمسة تغيرت أنظمتها أو اهتزت أركانها.
(3) إن الذين يصرون على نعي الربيع العربي وإشاعة نبأ وفاته يفوتهم الانتباه إلى أن الأمة العربية استيقظت ورأت الربيع بأعينها في الشوارع والميادين. كما أن الخبرة كشفت عن أن شعوبنا أقوى مما نظن وأن الأنظمة المستبدة والفاسدة رغم جبروتها أضعف مما نظن.
لذلك فإن الباب الذي يتوهم البعض أنه تم إغلاقه، لا يزال مفتوحا على مصراعيه، كما أن الحلم الذي يظن البعض أو يتوهمون أنه أجهض، لا يزال حيا يتوهج في أعين كثيرين ممن يرون ما لا يراه الآخرون. ذلك أنك لا تستطيع أن تلغي وجود الشمس وتعلن حلول الظلام بمجرد إغماض عينيك. إذ في هذه الحالة لا يطلب منك سوى أن تفتح عينيك لكي تدرك الحقيقة.
(الشروق"