في منتصف شهر مارس الماضي هبطت طائرة عسكرية أمريكية في مسقط عاصمة سلطنة عمان وعلى متنها كل من وليم بيرن، نائب وزير الخارجية الأمريكي، وجاك سوليفان، مستشار نائب الرئيس الامريكي ومجموعة صغيرة مختارة من التقنيين والفنيين لحضور اجتماع مع مسؤولين
إيرانيين، عقدت هذه الاجتماعات بشكل سري خمس مرات خلال عدة أشهر حتى تسربت المعلومات عنها ونشرتها وكالة الأسوشيتد برس بشكل شبه تفصيلي، ولم يكشف النقاب عن ممثلي إيران في هذه الاجتماعات ولكن الأمريكان ذكروا أنهم كانوا يتحدثون الإنجليزية بطلاقة.
هذه الاجتماعات هي التي عبدت الطريق لاجتماعات جنيف التي يحضرها كل من محمد جواد ظريف من الجانب الإيراني و ممثلة الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون، وهي الاجتماعات التي أعلن عنها بشكل مفاجئ مما حدا بفرنسا وإسرائيل بأن تشككان فيها منذ البداية لأنهما شعرتا أن هناك أمورا تمت للترتيب لها بدون علمهما فكانت ردود أفعالهما مبالغا فيها يغلب عليها الغضب والانفعال.
ولكن لماذا كل هذه السرية منذ البداية؟ ولماذا انحصرت في
أوباما ومجموعة مختارة صغيرة من مساعديه فقط؟
تفاجأ العالم بالاحتفاء الأمريكي بكل خطوة اتصال تمت بين طهران وواشنطن خلال الفترة الماضية، وكأن الأمر كان تلقائيا بين صديقين اختصما ثم قررا ان يتصالحا، وبدأ الإعلام الأمريكي متفاجئا من تلقائية هذه اللقاءات وحميميتها متناسيا أن السياسة ليس بها مصادفات وأنها ترمي بكل الانفعالات الإنسانية في سلة القمامة، وأنها باحتفاليتها هذه تنثر الزهور على قرار كان أوباما قد اتخذه منذ بداية السنة لإطلاق المحادثات السرية التي إن فشلت فإنها ستعصف بمستقبله السياسي بشكل نهائي، ولهذا فان الاحتفاء بها يضيف إلى رصيده السياسي أيضا.
وبشكل متزامن مع إطلاق المفاوضات السرية نشر مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تقريره الثاني عشر بعنوان (أوباما 2) والرقم 2 يعني الإدارة الثانية للرئيس الأمريكي، كتب التقرير كلا من دنيس روس و جيم جيفري، وهما شخصيتان مرموقتان في مجال الفكر السياسي ولهما دور في تحديد ورسم السياسة الأمريكية في المنطقة، وكلاهما ينتمي إلى اليمين المحافظ المؤيد لإسرائيل بشكل قوي.
التقرير يقع في حوالي 50 صفحة، وهو يحدد آلية التعامل مع التحديات التي تواجه السياسة الأمريكية في المنطقة العربية.
www.washingtoninstitute.org
Obama middle east policy
وضع التقرير عدة تحديات أمام إدارة الرئيس أوباما على حسب أهميتها، وهي كالتالي :
* البرنامج الذري الإيراني الذي على وشك أن يجتاز نقطة ألا عودة في إنتاج السلاح الذري.
* الحرب الأهلية السورية
* بوادر الصراع الطائفي في العراق.
* بروز الإسلام السياسي السني الذي يمثل تحديا لقيم الولايات المتحدة و لحلفائها التقليديين خصوصا الملكيات المرتبطة بها والتي تخاف من الزعامات الإسلامية الجديدة و تخاف من ايران في الوقت نفسه ( نص التقرير )
* الإرهاب الإسلامي في شمال إفريقيا.
* توقف عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
فهل هي مصادفة ان يخرج مثل هذا التقرير المهم في ذات الوقت الذي سمح فيه أوباما بإطلاق عملية المفاوضات مع الإيرانيين بشكلها السري؟
وحتى نستوعب أهمية هذه المفاوضات بعد ان اخذت شكلها العلني واهتمام واشنطن بها، وصل الى جنيف يوم السبت الماضي 23 نوفمبر، كل من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري برفقة نظرائه وزير الخارجية البريطاني والفرنسي والصيني و الروسي والألماني لحضور هذه الاجتماعات التي أصبحت أهم حدث عالمي تتناقله وسائل الإعلام.
إذن لقد نجحت ايران في ان تحصل لها على كرسي مهم بين الدول المهمة الأخرى، وأصبحت - شئنا أم أبينا- قوة إقليمية تطالب بمصالحها التي ستكون على حساب مصالحنا بدون شك، وهي لن تتنازل عن تخصيب اليورانيوم حتى تحصل على مبتغاها ويتم التعامل بها بالشكل الذي يرضيها إقليميا وعالميا.
و الان دعوني اشرح لكم ماهو الثمن الذي دفعته طهران لتصل إلى ما وصلت اليه، لقد صرفت ايران خلال العشرين عاما الماضية على برنامجها الذري 40 مليار دولار، ووصلت إلى مستويات متقدمة في مسألة تخصيب اليورانيوم بالإضافة إلى تقدمها الواضح في انتاج الصواريخ البالستية ( ذاتية الدفع ) مما سيجعلها قوة ذرية خلال سنوات قليلة قادمة، ومع معرفة واشنطن بخطورة هذا الوضع بدأت في فرض عقوبات اقتصادية عليها مما تسبب في خسارتها لحوالي 105 مليارات دولار من مبيعات النفط ومشتقاته، بالإضافة إلى 25 مليار دولار اخرى خسرتها في النظام البنكي، أي أنها خسرت مبلغا يقدر بحوالي 170 مليار دولار على برنامجها الذري وعلى حمايته، وبدأت تحصد نتيجة ذلك.
لقد كان نتيجة هذه المفاوضات توقف الإدارة الأمريكية عن تنفيذ تهديدها بالتدخل في سوريا بعد ان استخدم بشار السلاح الكيماوي ضد مواطنيه، مع أن أنظار العالم بقيت مركزة على واشنطن ترقبا لتهديد شديد أطلقه رئيسها قبل ذلك، ومن نتيجة ذلك أيضا إهمال صراخ المكون السني في العراق و التعامل معه على انه هامشي لا وزن له، ومن نتيجة ذلك غضب بعض الدول العربية من الإدارة الأمريكية لأنها شعرت بألم طعنة الظهر.
ان ما رأيناه هو فقط البداية، وقد تكون تداعيات هذا الاتفاق اقسى علينا مما نظن، لقد أسهمنا في الإطاحة بعمقنا الاستراتيجي المصري و وضعنا حكومة عسكرية دموية على رأس اكبر دولة عربية كانت ستقف في وجه التمدد الإيراني، و أظننا سنبدأ في الصراخ ألما قريبا..