لقد طرد الانقلاب خصومه من حمى
الديمقراطية وكشف نيته المكشوفة أصلا؛ أن
يحكم وحده بطريقته وبأسلوبه حتى الموت، لكن خصومه ما زالوا مصرين على منافسته على
قاعدة الديمقراطية الانتخابية فيتظلمون لدى محاكم نصب الانقلاب قضاتها وأجزل لهم
العطاء.
وما من عاقل يمكنه أن يقنع الجمهور الناخب بأن الأمر في باطنه كما في ظاهره
قائم على صراع بوسائل القانون، وأنه كلما أمعن فيه المعارضون وصلوا إلى حلول
ديمقراطية، ويكفي فقط التحلي بالصبر وطول البال. نحن ننظر إلى هذه اللحظة من زاوية
مختلفة يقرّنا عليها كثيرون لكنهم لا يجرؤون على العمل بها كقاعدة لاستئناف
السياسة في بلد مثل
تونس، إنها معركة التحرر الوطني السبيل الوحيدة للوصول إلى وضع
ديمقراطي يوفر شروط التداول على السلطة بالإرادة الشعبية الحرة.
هاربون من النقد الذاتي
نجلس في المقاهي مع مثقفين مشغولين بحال البلد فيهمسون بأن الموقف الأسلم
ضد الانقلاب كان موقف رئيس البرلمان ليلة الانقلاب أمام برلمان مغلق بدبابة، وأن
تفويت تلك اللحظة جر الخراب الحالي، فتسأل: ولماذا لا تصرح بهذا علنا حتى في منشور
فيسبوك صغير؟ فيقول المثقف إن ذلك يعني عودة الغنوشي للسلطة بشرعية أكبر. وتمعن في
السؤال: وما الذي أدى إلى تلك الوقفة؟ فتنكشف هشاشة النقد الذاتي وإن كان همسا. تدور أسطوانة أخطاء النهضة وزعيمها بما فيها تحوزها على طن من
الألماس.
تنكشف المواقف والنوايا وينكشف خطاب الذين أعلنوا منافسة المنقلب بوسائله وبشروطه ففشلوا. لقد هربوا من الإقرار الأخلاقي الشجاع بأنهم شاركوا من مواقع مختلفة وبدرجات متفاوتة في الانقلاب قبل أن يصلوا إلى قناعة بفشله، وإذ يحاولون إسقاطه ينكشفون ويكشفون أنهم يحتفظون من الانقلاب بجوهره، فجوهر الانقلاب عملية استئصالية موجهة ضد طرف سياسي كان له شرف معارضته منذ الساعة الأولى
من هنا تدخل علينا البذاءة، إذ تنكشف المواقف والنوايا وينكشف خطاب الذين أعلنوا
منافسة المنقلب بوسائله وبشروطه ففشلوا. لقد هربوا من الإقرار الأخلاقي الشجاع بأنهم
شاركوا من مواقع مختلفة وبدرجات متفاوتة في الانقلاب قبل أن يصلوا إلى قناعة بفشله،
وإذ يحاولون إسقاطه ينكشفون ويكشفون أنهم يحتفظون من الانقلاب بجوهره، فجوهر
الانقلاب عملية استئصالية موجهة ضد طرف سياسي كان له شرف معارضته منذ الساعة
الأولى. لكن الانقلاب وهو في طريقه إلى ترسيخ قدميه جرَّف كل احتمالات العودة إلى
الديمقراطية، وكان المترشحون الحاليون المطرودون من حمّى الديمقراطية من بعض من
جرَّف، فهم وخصمهم في موقع سواء.
لقد ترشحوا في وضع سياسي رأوا فيه غنيمة متاحة وهو أن خصما سياسيا ثقيل
الوزن في صندوق الانتخاب غائب ولا يمكنه المنافسة فالمنصب متاح في غيابهم. ولقد
أظهر كل واحد منهم من سوء النية ما يكفي ليكون استئصاليا متخفيا خلف خطاب ديمقراطي
فقد كان أعلى خطاب سمعناه المن على المساجين بالسراح مع ما يكفي من الحذلقة
القانونية ليكون سراحا بشروط التصويت. فالجمهور الممنوع من الترشيح بقي بلا مرشح، ويمكن
الاستفادة منه بلا ثمن أو بثمن بخس.
لقد كتبنا لهم حد الملل أن الانقلاب يعرف فرقتهم ويستفيد منها وقد مر منها
إلى السلطة، وقد حان زمن الخروج من التفكير الانتهازي والاستئصالي لبناء جبهة
سياسية تستعيد الديمقراطية وترسخ قواعد التنافس، لكن مع كل يوم يمر كنا نكتشف أن
غياب حزب النهضة اعتبر عندهم فرصة ذهبية لنيل السلطة (وبجمهور النهضة المطرود
منها). ولقد وصفنا هذا السلوك ونكرر مرة أخرى هذه طريقة الضباع في تدبر غذائها، إذ
تنتظر صيد السباع لتأكل من فضلتها. لقد كان كل الوضع فضلة صيد تهافتت عليه ضباع.
لقد اكتشفوا أن الصائد يحب أن يأكل وحده، وقد علق فريسته فوق شجرة حيث لا ترتقي
الضباع.
لدغة ثانية من نفس الجحر
اللدغة الأولى كانت زمن بن علي. وقد تلذذ معارضوه محرقة الإسلاميين وظنوا
أنهم نائلون بذلك غنيمة المشاركة في السلطة، فلما استبد الأمر له صفاهم بأقل
القليل من الجهد. تكرر المشهد بحذافيره؛ الضحية واضحة والطامعون في الغنيمة لم
يتطوروا، لقد أدخلوا أيديهم للجحر ثانية فلم ينالوا إلا السم بما يجعل حديثهم عن
الديمقراطية عندنا لغوا لا يعتد به ولا يؤمَن قائله.
كانت أقوى ورقة عند الانقلاب وهو يصفي خصومه هي فرقتهم في هذه النقطة بالذات، وقد استفاد من تجربة بن علي دون دفع ثمن كأن من يخطط له اللدغة الثانية هو الذي خطط اللدغة الأولى
هل على الجميع أن يصطف خلف النهضة الآن؟ لقد سمعنا هذا السؤال في المقاهي،
ولقد أجبنا بما نراه من شروط بناء الديمقراطية أن يكون التقدم للديمقراطية مبنيا
على ضمان حقوق الجميع بعد العرض على الجمهور الواسع، وأن يقبل حكم الجمهور وميزانه
في الناس والأحزاب، وأن يترك للزمن تمحيص القدرات دون خطاب الاستئصال الظاهر وخاصة
دون حذلقات الاستئصال المتخفي، من قبيل للإسلاميين الحق في المشاركة لكن دون
ممارسة الحكم. فمن هنا بدأ الاستئصال أو عاد بعد الثورة وهو الأصح، وقد كنا ظننا
أن الثورة جبت ما قبلها.
الانقلاب بدأ من هنا حتى وصلنا إلى لحظته الراهنة، وكل الذين شاركوا في
خطاب "نعم ولكن" مهدوا له وكثيرهم دعمه ولا يزال يتظاهر بمعارضته أو
الترشح ضده لتزيين محفله المزيف. إننا نذهب إلى حد القول إن الانقلاب أقل
استئصالية من معارضيه لأنه واضح في خصومته.
لقد كانت أقوى ورقة عند الانقلاب وهو يصفي خصومه هي فرقتهم في هذه النقطة
بالذات، وقد استفاد من تجربة بن علي دون دفع ثمن كأن من يخطط له اللدغة الثانية هو
الذي خطط اللدغة الأولى. هذه النتيجة من تلك الأسباب.
وضع عربي واحد يفتح على معركة تحرر
وطني
نعمم الحالة التونسية بكل سهولة، فالوضع متشابه بل متطابق في كل قُطر ولا
تتغير إلا الأسماء وربطات العنق. فأفق الديمقراطية في بلداننا يفتح على معارك أكبر
هي التحرر من تأثير القوى الخارجية المتحكمة في كل مشهد على حدة، بالاستناد إلى
قوة الناس المتضررين من القهر الاستعماري منذ قرنين.
نرى الجزائر، يستقيل تبون ويعيد الترشح وينافسه مرشح إسلامي وآخر يساري،
ونجزم بفوز تبون قبل السابع من أيلول/ سبتمبر وفي دورة واحدة، فالمنافسان يتنافيان
بما يفتح الطريق لمرشح العسكر.
نعمم الحالة التونسية بكل سهولة، فالوضع متشابه بل متطابق في كل قُطر ولا تتغير إلا الأسماء وربطات العنق. فأفق الديمقراطية في بلداننا يفتح على معارك أكبر هي التحرر من تأثير القوى الخارجية المتحكمة في كل مشهد على حدة
الوضع نفسه في مصر بل في فلسطين نفسها وهي تحت النار، فعباس لا يزال ذا
حظوة عند قوم يتظاهرون بنصرة المقاومة لكن قلوبهم مع عباس ويعتبرونه عنوان الشرعية.
وكلما وسعنا القياس وجدنا أدلة على هذا التنافي الاستئصالي الذي يستفيد منه حتى
حفتر، بما يفرز الصفوف لمن يملك الشجاعة.
صف بناء الديمقراطية على قاعدة غير استئصالية هو صف التحرر الوطني
بالديمقراطية دون الحاجة إلى أنفاق حماس وقذائف الياسين، يقابله صف الانقلابات
وفيه كل استئصالي يظن نفسه يملك حقيقة الديمقراطية وهو في العمق استئصالي يأكل فضلة
السباع.
هل سيتألف هذا الصف التحرري بالديمقراطية؟ إجابتنا هي لا كبيرة لا نشك في
صحتها؛ لأن بداية تأسيس هذا الصف هي الاعتراف بالمشاركة في الانقلاب على
الديمقراطية وانتظار غنيمة من الانقلابات، وهذا شامل وعام في كل الأقطار.
ماذا سيحدث بعد حين؟ سينتصر الانقلاب بالصندوق ويحكم ما شاء الله له أن
يحكم، وسيبقى الديمقراطيون المزيفون في وجوهنا، وعزاؤنا
الوحيد هو أنهم لن ينجبوا وريثا.