بين
اغتيال الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) واغتيال
الشهيد
إسماعيل هنية (أبو العبد) ما يقرب من أربعين عاما؛ الأول تم في الثمانينيات
وتحديدا بعد عام من اندلاع الانتفاضة الأولى في كانون الأول/ ديسمبر 1987م، والثاني
في الألفية الثالثة بعد "طوفان الأقصى". الاغتيالان يعكسان تركيبة العقل
الاستراتيجي في
إسرائيل في زمنين مختلفين وكيف تردت وتآكلت، سواء أكان ذلك عبر
السنين والزمن ولذلك شواهده، أو عبر الاضطراب العام الذي شمل كل مكونات النخب الإسرائيلية
سياسيا وعسكريا (لن نتحدث هنا عما هو اجتماعي واقتصادي وهو بالغ التأثير). لكن في
حدود الحدث ودائرته التي سينتصفها هذا الحدث، سنرى كيف تتسع وتضيق هذه الدائرة في
منظور المصالح العليا لإسرائيل كما كانت تراها هذه النخبة، وكيف هي الآن.
وسيكون مهما هنا أن نشير إلى أن الخط التاريخي موصول بين
الاغتيالين! إذ أن الاغتيال الأول كان يهدف بوضوح قاطع لمنع البدايات الأولى لـ"تكوين
الحالة"، التي حدث أثناءها الاغتيال الثاني..
* * *
سيكون مهما هنا أن نشير إلى أن الخط التاريخي موصول بين الاغتيالين! إذ أن الاغتيال الأول كان يهدف بوضوح قاطع لمنع البدايات الأولى لـ"تكوين الحالة"، التي حدث أثناءها الاغتيال الثاني
سنعرف أن السلطات التونسية لم تُسلم الجهات الفلسطينية إلى
الآن ملف اغتيال (أمير الشهداء)! ولم تنه التحقيق في القضية رقم 22142 المرفوعة منذ
سنة 2012م لهذا الغرض. إنه نائب الزعيم ياسر عرفات، الشخص الثاني والأقوى حضورا
وتأثيرا في منظمة التحرير الفلسطينية، الرجل ذو الأصول العريقة القديمة في تيار
الإصلاح الإسلامي الكبير داخل مدينة غزة في الخمسينيات، والتي كانت تتبع الإدارة
المصرية من بعد النكبة 1948م.
الخمسينيات في العالم العربي شهدت الضربات الأولى الصارمة
لحصار حركة الإصلاح التاريخية، واستئصال كل ما له بها صلة. والمدهش هو تزامن ذلك
مع خروج الاحتلال الأوروبي وإعلان إسرائيل، سنعرف بعدها أن كل ذلك كان موصول
القرابة بعضه ببعض، ودون التوقف كثيرا هنا، سيتم اعتقال أبي جهاد في هذه الفترة.
ورغم البعد الجغرافي وحتى التنظيمي، سيكون هذا الاعتقال
من وقتها شاهدا على عمق العداء بين النظام العربي الرسمي من جهة، وبين هذه الحركة
الإصلاحية التاريخية التي يمتد عمقها في التاريخ إلى ما يزيد عن قرنين مضيا، وإذا
ما تحرينا دقة التوصيف في الوصل بين كل ما ينبغي أن يوصل، سيصل بنا هذا الوصل إلى
غزة بعد 300 يوم من "حرب عالمية" عليها تنفذها إسرائيل، ويشاهدها النظام
العربي في صمت مريب.
* * *
كما بدأتَ ستبقى، هكذا يقولون، وإذا بدأت صادقا، ومضيت
مخلصا، وحملت غايتك في عقلك وقلبك، عارفا بصدق العارفين (ماذا تريد؟)، ولم تخايلك
المطالب أولا ولم تختلط عليك الطرق ثانيا ولم تتبدل غايتك آخِرا.. فستكون شهيدا،
وشاهدا أصيلا على كل الحقائق.. وهكذا كانت البداية والبقاء، وأيضا نهايته لأمير
الشهداء.
هل كان الاغتيال يهدف إلى إحداث اختراق لهذا المعنى الجليل في الوجدان العربي والفلسطيني؟ إذا كان ذلك كذلك، فنحن أمام حالة ضعف وخيبة، لا تثير فقط الدهشة، ولكن تثير الشفقة على من فكر وقدر ونظر في قرار كهذا
كان لا بد من اغتيال أبي جهاد قبل التمهيد لأهم خطوة
سيشهدها الشرق الأوسط، وفى القلب منه القضية الفلسطينية، في نهايات القرن الماضي..
خطوة اتفاقات أوسلو 1993م.
كان هذا الاغتيال ضرورة عربية وغربية، لسحب الراحل ياسر
عرفات إلى: ما كان ليحدث أبدا في حياة أبي جهاد، ثم إلى نهايته التي انتهى إليها
سنة 2004م، والتي كان يتوقعها أبسط متابع عربي لأخبار للقضية الفلسطينية من بعد أم
الهزائم (5 حزيران/ يونيو 1967م)، والتي كانت تمثل ذروة عطاء النظام العربي الرسمي
للقضية الفلسطينية، عبر كل مراحل تكوينها من بدايات الهجرة اليهودية 1882م مرورا
بوعد بلفور 1918م وحتى إعلان دولة إسرائيل في أيار/ مايو 1948م.
* * *
وزيرا دفاع سابقان (إيهود باراك وموشيه يعلون) قاما
بتخطيط وتنفيذ عملية اغتيال "أمير الشهداء" والتي شارك فيها الموساد،
والشاباك، ووحدة سيرت متكال، وشايطيت 13، والقوات الجوية، والبحرية..
وواضح بالطبع أن الهدف من الاغتيال كان كبيرا
واستراتيجيا وبعيدا، وبما يتجاوز الشخص نفسه، ويذهب إلى عمق أعماق دوره وأثره الفكري
والتنظيمي والميداني الذي يدير إحداثيات الحاضر، ويرتب لحوادث المستقبل.
فهل كل هذه المعطيات توافرت في حالة اغتيال الشهيد
إسماعيل هنية؟ لا يبدو لنا ذلك.
* * *
لكن وزير خارجية تركيا السيد هاكان فيدان، الذي كان صاحب
أدق وأصدق وأحق وصف قيل في نعي "أبي العبد" الشهيد إسماعيل هنية، قال: "كنا
نراه فيذكرنا بالله"، وحين تعرف أن قائل هذه الجملة الدامغة كان رئيس مخابرات
سابق، سيكون الوصف هنا له ألف اعتبار واعتبار.
فهل كان الاغتيال يهدف إلى إحداث اختراق لهذا المعنى الجليل
في الوجدان العربي والفلسطيني؟ إذا كان ذلك كذلك، فنحن أمام حالة ضعف وخيبة، لا
تثير فقط الدهشة، ولكن تثير الشفقة على من فكر وقدر ونظر في قرار كهذا..
لم أذهب بعيدا في التوقيع والتقدير! لكن عملية الاغتيال
هذه واستنادا إلى كل الغايات البعيدة، لا تهدف إلى أي شيء جوهري واستراتيجي، في المعطيات
المفهومة للواقع بكل توصيفاته وتنويعاته.
* * *
مهما كان الفشل الذي أصاب الحالة الإسرائيلية كلها؛ من عجز عن تحقيق أي هدف من أهداف الحرب المعلنة وانتهاء بغياب أي رؤية لما بعدها.. فهل افتعال واقع إقليمي بكل هذا التوتر والاشتعال سيساعد في أي من الاثنين..؟
ماذا عن البلد الذي تم الاغتيال فيه؟ وسنسأل نفس السؤال
عما هو جوهري واستراتيجي في هذا الاعتداء الفاضح على سيادة هكذا بلد وكرامته وشرفه
التاريخي، في اغتيال قائد كبير، لمعركة كبيرة، في أيام لن ينساها التاريخ، أيام معركة
"طوفان الأقصى".. وما إدراك ما أيام معركة "طوفان الأقصى" في التاريخ
الحديث والمعاصر.
أنت تريد هنا أن تكسو هذا البلد العار والذل أبد الدهر!
إذ من سينسى هذه الأيام عبر كل تاريخ هذا الصراع الكبير؟
ومهما كان الفشل الذي أصاب الحالة الإسرائيلية كلها؛ من
عجز عن تحقيق أي هدف من أهداف الحرب المعلنة وانتهاء بغياب أي رؤية لما بعدها.. فهل
افتعال واقع إقليمي بكل هذا التوتر والاشتعال سيساعد في أي من الاثنين..؟
لا تفسير يبدو لنا منطقيا ومتماسكا لكل ما رأيناه الأيام
الماضية.. إلا إذا قرأناه في سياق العنوان الكبير الذي صاغه قادتها وكانوا يقصدون
المعنى بكل حمولته الدينية والطبيعية: "طوفان الأقصى"..
"هي معركة تحرير كبرى، وفي قلبها المسجد الأقصى"،
كما قال إبراهيم لابن عمه في رواية "الشوك والقرنفل" التي كتبها يحيى
السنوار.
وأنا أحد من يؤمنون بأن هذه المعركة من يوم بدئها وإلى
يوم منتهاها، وهي تسير باسم الله، في مجراها ومرساها.. وهكذا رآها أصحابها.. وهكذا
رأيناها وفهمناها.. وهكذا هي بالفعل.
x.com/helhamamy