قضايا وآراء

الحضارة الضالة.. والعار الإنساني

إبراهيم أبو محمد
"صحوة جديدة لدى شعوب الغرب خلصته من حالة العمى وتسطيح العقول وخداع الرأي العام التي سببتها وسائل الإعلام الغربي"- جيتي
"صحوة جديدة لدى شعوب الغرب خلصته من حالة العمى وتسطيح العقول وخداع الرأي العام التي سببتها وسائل الإعلام الغربي"- جيتي
هنالك حكمة دقيقة المعنى تقول: إن لله سيوفا يقطع بها رقاب الظالمين، منها أخطاؤهم.

والحماقة التي ترتكبها إسرائيل على مدار تسعة شهور وإلى اليوم في غزة، قد تبدو لمن فقد البصيرة أنها فوز وانتصار، حيث استطاعت إسرائيل أن تحرق الأخضر واليابس، وأن تحول عمران غزة إلى دمار وخراب، وربما يتصور البعض أنها بقوة النار والتدمير واستعمال التجويع كسلاح غير أخلاقي بالإضافة لمنع الكهرباء وتدمير البنية التحية وهدم المدارس والمستشفيات؛ قد حطمت إرادة الشعب الفلسطيني وكسرت شوكة المقاومة كما يدعي نتنياهو وتروج بعض القنوات العربية والعبرية..!

إنها في الحقيقة تساهم في توليد أنواع جديدة من المقاومة مبتكرة ومبهرة، تتعدى حدود المسافة صفر لتصنع معادلة جديدة هي: أن المسافة أقل من الصفر، ومن ثم فاللغة تعجز عن وصف الإبهار ولا تجد في مصطلحاتها ومفرداتها من ألفاظ ما يعبر عن الحالة.

ناتج المعادلة الجديدة خلق صحوة جديدة لدى شعوب الغرب خلصته من حالة العمى وتسطيح العقول وخداع الرأي العام التي سببتها وسائل الإعلام الغربي، ومعها مصانع الكذب والتشويه التي كانت قد احتلت وسيطرت على عقول أجيال في الغرب لأكثر من سبعين سنة.
المعادلة الجدية أيضا وضع الحمق الإسرائيلي وانحياز مراكز القرار في الغرب في مواجهة حالة من عودة الوعي الجمعي مصحوبة بالتحدي غير مسبوقة، حيث رأت شعوب الغرب بأم أعينها هذا الكيان على حقيقته الوحشية وكيف يقدم تحت نشوة القوة العمياء على تعجيل نهايته وتقريب وقت زواله

ناتج المعادلة الجدية أيضا وضع الحمق الإسرائيلي وانحياز مراكز القرار في الغرب في مواجهة حالة من عودة الوعي الجمعي مصحوبة بالتحدي غير مسبوقة، حيث رأت شعوب الغرب بأم أعينها هذا الكيان على حقيقته الوحشية وكيف يقدم تحت نشوة القوة العمياء على تعجيل نهايته وتقريب وقت زواله، ذلك لأن الأرض التي تشبعت بدماء الضحايا من نساء ورجال وأطفال ستنبت أشجارا تطرح مقاومة من نوع جديد.

فبعض أطفال غزة الذين نجوا من الموت بعد أن عاشوه في تلك الحرب ورأوا بأعينهم آباءهم وأمهاتهم وعائلاتهم وهم يسقطون شهداء بسلاح الاحتلال؛ لا يمكن أن تغيب عن ذاكرتهم كل معاني وصور القسوة والغضب والرغبة في الانتقام متى تمكن أحدهم من ذلك.

وإذا أرادت إسرائيل أن تتخلص من المقاومة فعليها قبل أي شيء أن تخلص كل أرض غزة وسمائها وترابها وهوائها من دماء الشهداء، وعليها أن تمحو من ذاكرة التاريخ كل الأحداث والظروف التي تسيطر على كل مولود في غزة، من عاش منهم الأحداث والحرب، ومن جاء بعده. فتلك المجازر التي عاشها أهله وماتوا فيها هي ما قد سطرت في مخيلته، ومن ثم فهي لا تكون رؤيته وتملأ وجدانه فقط، وإنما تشكل دوافع سلوكه في الحاضر والمستقبل.

وما عاشه في ظل الاحتلال سيجعل منه إعصارا ونارا، ومن ثم ستنشئ حماقة المحتل مقاومة من نوع جديد لن يجدي معها القمع أو الإغواء، لأن عناصرها قد عاشوا الموت من قبل أن يلقوه في تجربة أهله وعائلته، وتجربتهم كرست ورسخت في أذهانهم أن الموت والحياة سيان، يستويان حينا ويفترقان أحيانا، وفي حالتهم هم يكون الموت هو الخيار الأفضل.

هذا النوع من المقاومة يملك جسارة واقتدارا تعجز كل أدوات التقنية الحديثة التي يمتلكها الجندي الإسرائيلي أن تتعامل معهما؛ لأن الحياة الدنيا بالنسبة للمقاوم ليست غاية ومطلبا في نظره، وإنما ما بعد الحياة الدنيا هو المطلوب المرغوب، وذلك بعكس نظيره الإسرائيلي الذي يحرص على مجرد حياة من أي نوع مهما كانت.

وبحسابات المآل والمصير، فالأول يقينه أنه بالشهادة يدخل الجنة فهو يعرف أنه يحرر أرضه وأنه إذا مات فهو شهيد، وهنالك أهله الذين قتلهم الاحتلال وقد سبقوه وذهبوا قبله فهم في انتظاره، ومن ثم فهو يشتاق إليهم وهم يشتاقون إليه وينتظرون زفافه إلى الجنة.. هكذا لخصت أم فلسطينية جلست بين شهيدين من أبنائها قتلتهم إسرائيل ونقلت -حكايتها وحالتها صوتا وصورة - وسائل التواصل الاجتماعي.

ما يحدث في غزة كشف القناع عن الوجه القبيح لحضارة تقدمت فيها الآلة بينما تخلف الإنسان، ما يحدث فضح عورات الغرب وأزال عنه مكياج الديمقراطية وأصباغ حقوق الإنسان التي صدع بها رؤوسنا على مدار عقود من الزمن، ما يحدث تحت سمع وبصر العالم كشف لنا أيضا كم هي واسعة وشاسعة مساحة التوحش المظلمة والشر في النفس الخبيثة؛ حتى ولو زينت صورتها ببدلة أنيقة وربطة عنق آخر موديل.

ما يحدث في غزة كشف القناع عن الوجه القبيح لحضارة تقدمت فيها الآلة بينما تخلف الإنسان، ما يحدث فضح عورات الغرب وأزال عنه مكياج الديمقراطية وأصباغ حقوق الإنسان التي صدع بها رؤوسنا على مدار عقود من الزمن، ما يحدث تحت سمع وبصر العالم كشف لنا أيضا كم هي واسعة وشاسعة مساحة التوحش المظلمة والشر في النفس الخبيثة
الوحش المستأنس كشّر عن أنيابه وأظهر مخالبه، وشرب من دماء الأطفال وانتشى حتى الثمالة.. الغرب كمركز للحضارة وكمراكز للقرار نزع عن ذاته رداء الإنسانية فظهرت العنصرية متورمة الى حد مخيف، حيث اعترض على وقف نزيف الدم في مجلس الأمن، وأصر على استمرار العدو المحتل في قتل المدنيين العزل والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.

ما يسمى بالدول العظمى سقطت قيمها ولم يبق فيها غير غلالة شفافة تعكس ما بداخلها من كراهية وتعصب؛ تحجب الحقيقية وتغطي وجه الحياة برائحة الدم التي تعكس رغبة الوحش وتغريه بمزيد من رائحة الشواء لأجساد الضحايا من نساء وأطفال، ليمارس هوايته في مزيد من القتل والتدمير وتحويل المساكن والبيوت الى خراب ودمار.

احتراف القتل لدى تجار الموت وأعداء الحياة تحول إلى متعة وإدمان لمن ماتت ضمائرهم وسقطت إنسانيتهم، فظهروا وكأنهم في حانة يتبادل الخلان فيها رائحة الموت، ويسكرون على أنغام القذائف والانفجارات التي تقتل مئات البشر وتهدم عشرات البيوت على ساكنيها.

تعيسة هي تلك الدنيا التي تكتم صوت الضمير، وتحول البشر الى جوقة لا تعرف إلا التحيز الأعمى، وتصر على تسويق نغم فاجر يكرس قوة الأقوى ويعمل على تحطيم الأضعف، ويحول الحياة إلى غابة يخضع فيها الجميع لوحش واحد، ولا يسمع فيها إلا صوت واحد، ولا يردد إلا عبارات اللوم للضحايا الأبرياء.

منظومة الكذب في الإعلام لم تحترم نفسها، ولم تلزمها بأبسط قواعد المهنة، حيث مارست دورها في الخداع وتضليل الرأي العام بشكل فج، ولأكثر من أسبوعين في بداية الحرب، ولم تراع قواعد المهنة ولم تعبأ بحماية المصداقية، فمارست الفجور بشكل مخجل، وكانت تحرص بشدة على قلب الحقائق بفبركة الصور والاستعانة بالذكاء الاصطناعي إلى حد الفضيحة، حتى جاءت الحقائق فأجبرت عواجيز الحرب على الاعتذار، بعد أن انتشرت الفضيحة في كل أقطار الأرض وسخرت الدنيا لا من سذاجة الفعل، وإنما من حماقته وقذارته، حيث كانت المتاجرة بالأطفال هي موضوع الكذبة الكبرى لزعماء حضارة العار.

الغريب أن أعضاء فريق الجوقة الضالة لم تبد على وجوههم حمرة الخجل، وظهرت مكانها صفرة الخزي على وجوه كالحة لا تعرف للشرف معنى ولا للصدق مكانة.

قوانين الوجود لا تقوم على تلك القواعد الفاسدة، واستقامة الحياة لا يمكن أن تستمر في غياب العدالة وسيادة البغي والطغيان، وسقوط الحضارات أو ديمومتها مرهون برعاية العدالة واحترام الإنسانية وحماية الضعيف من بطش الأقوياء.

حالة الفوضى السائدة في عالم اليوم تنبئ بزلزال يغسل الأرض من أدران حضارة الفتك والتآمر، ويعيد ميزان الحياة إلى الاستقامة والاعتدال.
قوانين الوجود لا تقوم على تلك القواعد الفاسدة، واستقامة الحياة لا يمكن أن تستمر في غياب العدالة وسيادة البغي والطغيان، وسقوط الحضارات أو ديمومتها مرهون برعاية العدالة واحترام الإنسانية وحماية الضعيف من بطش الأقوياء

أعرف أن تجار الموت وسراق الأحلام وسماسرة القتل الممنهج لا يعبأون بمفاجآت الأقدار ولا يحسبون لها حسابا، ولكنها قوانين حاكمة ومنضبطة وثابتة بشهادة التاريخ والواقع، وفي لحظة ما سيصك كل أذن صماء ويذل كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب.

ما أشير إليه وأؤمن به يقين تحقق في الماضي، وسيتحقق في الحاضر والمستقبل القريب، لأنه من قوانين الوجود الحاكمة والضابطة لكل حضارة في كل زمان وفي كل مكان، والويل كل الويل لكل مغرور بترسانة سلاحه يظن أنه قد ملك الدنيا وبيده مقاليد الأمور، فمن لا يعرف ما حدث في الدنيا قبل مجيئه سيعيش حياته طفلا مهما امتد به العمر.

القوة الموهومة طارئة وليست أصيلة أو ثابتة، فليتذكر ذلك من تملكهم القوة ولا يملكونها، وذاكرة التاريخ تمنحنا من أخبارها عن الحضارات والأمم ما يعين على استقامة الحياة وتصحيح الأخطاء قبل فوات الأوان.

قوانين الوجود لا تقوم على تلك القواعد الفاسدة، واستقامة الحياة لا يمكن أن تستمر في غياب العدالة وسيادة البغي والطغيان، وسقوط الحضارات أو ديمومتها مرهون برعاية العدالة واحترام الإنسانية وحماية الضعيف من بطش الأقوياء.
التعليقات (0)