تتواصل ضغوط صندوق
النقد الدولي للحكومة المصرية للكشف عن اقتصاد البلاد السري والإفصاح عن أعمال
امبراطورية الأجهزة السيادية والصناديق الخاصة، وذلك عبر المطالبة ببيع بعض
الشركات التابعة للجيش، وضم موازنات الصناديق الخاصة والسيادية للموازنة العامة
للدولة، ومؤخرا منع الاقتراض المباشر من المركزي والكشف عن بياناتها المالية.
والثلاثاء
الماضي، أكدت وكالة "رويترز" أن
الحكومة المصرية تعهدت لصندوق النقد
الدولي بوقف الاقتراض المباشر لمليارات الدولارات من البنك المركزي المصري، ملمحة
إلى أن تقرير خبراء المؤسسة الدولية الصادر الشهر الماضي، دعا القاهرة لأن يكون
الاقتراض عبر
وزارة المالية، فقط.
ذلك التقرير وما
به من توصيات جاء خلال آذار/ مارس الماضي، إثر اعتماد مجلس
صندوق النقد الدولي
المراجعتين الأولى والثانية في إطار تسهيل الصندوق الممدد لمصر، وزيادة قيمة
البرنامج الأصلي بنحو 5 مليارات دولار، ليصل 8 مليارات دولار، فيما من المنتظر
إجراء المراجعة الثالثة في حزيران/ يونيو المقبل.
وهو الأمر الذي
فسره محللون، بأنه عند اقتراض أية
جهات مصرية سيادية وصناديق خاصة من البنك
المركزي أو من أية بنوك محلية لم تكن تظهر بيانات تلك الأموال في موازناتها التي
تكون على الأغلب سرية ولا تخضع للموازنة العامة للدولة.
ويرون أن هدف
الصندوق هو نشر أية معاملات مالية بالاقتراض بين تلك الجهات ووزارة المالية
مستقبلا، ما يسمح بظهور بيانات الجهات المقترضة وعملياتها المالية.
ووفق ما أكد
محلل مالي بإحدى شركات الاستثمارات المالية، لموقع "مدى مصر" فإن صندوق
النقد يريد وقف اقتراض جهات تابعة للحكومة من البنك المركزي مباشرة في حين أن
إيرادات تلك الجهات خارج الموازنة العامة للدولة.
وضرب المثل
بشركة العاصمة الإدارية الجديدة، المملوكة لجهات تابعة للقوات المسلحة مثل جهاز
مشروعات أراضي القوات المسلحة وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، ملمحا إلى أن ذلك
الوضع يُخضع موازنة شركة العاصمة لقواعد موازنة القوات المسلحة التي لا يتم نشرها
أو ضمها للموازنة العامة.
ووفق
"المعيار الخاص لنشر البيانات الخاصة بصندوق النقد الدولي"، الصادر عن
البنك المركزي المصري، وصل اقتراض الجهات الحكومية من البنك المركزي، بنهاية آذار/
مارس الماضي، تريليون و697 مليار جنيه، حوالي 40 مليار دولار.
اظهار أخبار متعلقة
وتُقدر الاحتياجات
التمويلية لمصر خلال العام المالي الجاري بـ2.14 تريليون جنيه، تسعى الحكومة
لتوفير 1.955 تريليون منها عبر تمويل محلي بإصدار سندات وأذون الخزانة.
الاقتصاد
المصري، الذي تغيب عنه الموازنة الموحدة، ويعاني من تغول اقتصاد الجيش، يواجه
أزمات مزمنة واختلالات هيكلية خطيرة، وسط تغول أزمة ديون خارجية تاريخية غير
مسبوقة تعدت 168 مليار دولار نهاية العام الماضي، وحلول آجال الكثير من خدمتها بين
أقساط وفوائد ومتأخرات تصل في 2024 وحده إلى 42 مليار دولار.
"تعليمات الصندوق"
وفي إطار حصول
مصر على قرض من صندوق النقد الدولي يجري التنسيق حول تفاصيله منذ نهاية العام
2022، بقيمة 3 مليارات دولار، وجرى رفعه إلى 8 مليارات، يشترط الصندوق لقاء القرض
الأخير طرح بعض شركات الجيش للبيع، مع توفير حرية المنافسة بالسوق واعتماد قواعد
اقتصادية شفافة.
وهو الأمر الذي
يبدو أن الحكومة المصرية تسعى لتنفيذه، حيث أنه وفي 27 شباط/ فبراير الماضي استعرض
رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، ومجموعته الوزارية العروض المقدمة بشأن طرح
الشركة الوطنية لبيع وتوزيع المنتجات البترولية "وطنية".
اظهار أخبار متعلقة
ويطالب صندوق
النقد الدولي مصر أيضا، بتوحيد الموازنة وضم جميع الهيئات والصناديق الخارجة عنها،
فيما دعا مطلع نيسان/ أبريل الجاري لدمج الاستثمارات الخارجة عن الموازنة بشفافية
ضمن عملية صنع قرارات السياسة الاقتصادية الكلية.
وفي شباط/
فبراير الماضي، أعلن وزير المالية محمد معيط، أنه لن يتم ضم الهيئات الاقتصادية أو
الصناديق الخاصة البالغة نحو 6667 وتضم تريليونات الجنيهات، إلى الموازنة العامة
للدولة، بل ستخضع لما يسمى بالموازنة الشاملة المجمعة بشكل تدريجي خلال 5 سنوات.
الوزير، وبعد 5
أيام من حديثه ذاك، تراجع عن تصريحه السابق فيما يبدو تنفيذا لرغبة الصندوق، وقال
إن مجلس الوزراء يقر مشروع قانون بهدف دمج الموازنة العامة للدولة مع موازنات 59
هيئة اقتصادية بالبلاد مبينا أنها خطوة ترفع إيرادات الدولة من 2.1 تريليون جنيه
بموازنة العام المالي الحالي لنحو 4.8 تريليون جنيه.
وأخيرا يأتي
الطلب الثالث من صندوق النقد من حكومة القاهرة، بوقف الاقتراض المباشر من المركزي
المصري، ليثير التساؤل حول النتائج المترتبة على توجيه الصندوق، وكذلك حول مدى
قبول الجهات السيادية والصناديق الخاصة على ما لها من نفوذ بالدولة بهذا الأمر،
وما يتبعه القبول من كشف بيانات وأرقام تعاملاتها المالية.
"مشكوك في تنفيذه"
في رؤيته، قال
رئيس الأكاديمية الأوروبية للتمويل والاقتصاد الإسلامي الدكتور أشرف دوابه،
"يمكن للحكومة المصرية متمثلة في وزارة المالية الاقتراض من البنك المركزي
لسد عجز الموازنة للدولة وفقا للقانون بنسبة 10 بالمئة كحد أقصى من متوسط
الإيرادات خلال الثلاث سنوات السابقة، وذلك وفقا للمادة (47)، من قانون البنك
المركزي".
وأشار في حديثه
لـ"عربي21"، إلى أن المادة تنص على أنه "يقدم البنك المركزي تمويلا
للحكومة بناء على طلبها لتغطية العجز الموسمي في الموازنة العامة، بالشروط السابقة
وتكون مدة هذا التمويل 3 أشهر قابلة للتجديد لمدد أخرى مماثلة ويجب أن يسدد
بالكامل خلال 12 شهرا على الأكثر".
اظهار أخبار متعلقة
الأكاديمي
المصري ورئيس التمويل والاقتصاد بجامعة "اسطنبول"، أكد أنه ومع ذلك فإن
في اقتراض الدولة ووزارة المالية من البنك المركزي "في الواقع العملي فيه
مخالفات، ولفت إلى أنه "بالنسبة لأمر اقتراض
الصناديق الخاصة والسيادية من البنك المركزي المصري، فهو أمر لا يتناسب مع مهمة
البنك المركزي، ومخالف للقانون في هذا الإطار".
وتساءل:
"كيف لصناديق خاصة أو غيرها من السيادية أن تقترض من البنك المركزي نفسه؟،
برغم أن هناك وزارة للمالية، وكل الأمور الاقتصادية من المفترض أن تصب بها، فهي ما
تنسق أمر الاقتراض، كما أن القانون تكلم عن الاقتراض وفق ضوابط خاصة".
وحول قراءته
لدلالات مواصلة صندوق النقد توجيهاته بتحجيم إمبراطورية الجهات السيادية ببيع بعض
شركات للجيش، وضم الموازنات الخاصة والسيادية للموازنة العامة للدولة، والآن منع
الاقتراض المباشر من المركزي، قال دوابه: "صندوق النقد لا استبشر بالخير منه".
وأضاف أنه ليس لديه
ثقة في قراراته، وإن كان يحاول عمل نوعا من ضبط الموازنة المصرية العامة بدلا من
تعدد الصناديق الخاصة والسيادية"، معتقدا أنها "ستكون خطوة جيدة لو تمت
حتى بالنسبة لبعض شركات الجيش، واختم، بالتأكيد على أن وجهة نظره في
النهاية أن "هذا الأمر جميعه مشكوك في تحقيقه".
"لن يجرؤ أحد"
وفي رصده لهذا
الملف، أشار الأكاديمي والخبير الاقتصادي الدكتور مصطفى شاهين، إلى الجانب
التاريخي لقصة اقتراض الحكومة والمؤسسات والصناديق من البنك المركزي، موضحا أن
"وزارة المالية عند تجميعها لبنود الموازنة العامة للدولة تسأل كافة الوزارات
والهيئات والمؤسسات الداخلة بالموازنة عن الرقم الذي تحتاجه بداية من البنود
الثابتة كالأجور إلى غيرها".
أستاذ الاقتصاد
بكلية "أوكلاند" الأمريكية، أكد في حديثه لـ"عربي21"، أنه
"كان في السابق عند حدوث عجز الموازنة تلجأ الحكومة ممثلة في وزارة المالية
إلى البنك المركزي -كونه بنك الحكومة- لسد العجز عن طريق طباعة البنك لأوراق نقد
جديدة، ما نسميه اقتصاديا بالتمويل التضخمي أو أحيانا التمويل بالعجز".
وقال إنه
"بعد اتفاق مصر في عهد حسني مبارك مع صندوق النقد الدولي عام 1990، طلب
الصندوق من الحكومة بألا تقوم بطباعة النقود، والاقتراض من البنك المركزي مباشرة،
مقابل ما يعرف بالسندات الحكومية".
وفي شرحه للفارق
بين النظامين، بين الخبير والأكاديمي المصري، أنه "في الحالة الثانية
-الاقتراض مقابل السندات الحكومة- تدفع الحكومة فائدة على القرض من البنك المركزي،
ومن يشتري تلك السندات الحكومية من المستثمرين تُدفع له فائدة تبلغ الآن 28 بالمئة".
ولفت إلى أن
"هذه الطريقة تزيد من ديون الحكومة لدى البنك المركزي والجهاز المصرفي المحلي
على عكس الطريقة الأولى بطباعة النقد مباشرة، لكن في الطريقة الثانية -أخذ قرض
بطلب الصندوق من الجهاز المصرفي- كان غرض الصندوق أن تستشعر الحكومة عبئ الاقتراض،
وألا تزيد كمية النقود المتاحة في الاقتصاد".
وقال إن ما حدث
كارثي، حيث أن "الحكومة ظلت تقترض وتقترض وتريد أن تدفع لكنها لا تستطيع،
فتطلب من ناحية ثانية من البنك المركزي طباعة أوراق النقد مرات ومرات، كما أنه
للأسف فإن التمويل عن طريق الاقتراض أدى إلى زيادة بند الفوائد والأعباء على
الموازنة العامة للدولة".
وبصفة عامة
أعرب، شاهين، عن أسفه "من أن اقتراض الحكومة والأجهزة السيادية والصناديق
الخاصة لن يقدر أحد وقفه أو السيطرة عليه".
وأكد أيضا، أنه
"لا يمكن القول إن صندوق النقد الدولي يريد تحجيم إمبراطورية الجيش"،
مبينا أنه "ومنذ قرض صندوق النقد الدولي الأول في عهد السيسي تشرين الثاني/
نوفمبر 2016، ولا يجرؤ أحد فعل ذلك طوال 8 سنوات وبرغم أن المطالبات قائمة".
ويعتقد أن
"الجيش، في الأصل جاء للحكم لهذا الهدف، وكل القوى الدولية والإقليمية
المسيطرة والداعمة لصندوق النقد غرضها الأساسي بقاء الجيش، وهذا قول نهائي، لكنهم
أحيانا يريدون أن يضللوا بوصلتنا".
"غرض الصندوق"
وفي قراءته، قال
الخبير الاقتصادي الدكتور أحمد البهائي، إن "صندوق النقد الدولي لا يريد
الاكتفاء بالتعاون والتنسيق مع حكومة القاهرة، لكنه يريد إصلاح السياستين المالية
والنقدية بهدف القضاء على الاختلالات القائمة".
البهائي، أضاف
لـ"عربي21": "ويؤكد ذلك، أنه عند تقييم الصندوق لبرنامج تمويله
لمصر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، بقيمة 12 مليار دولار، وكذلك تمويل عام 2020،
بقيمة 5.2 مليار دولار، تبين للصندوق أن السلطة النقدية والمالية في مصر لم تحقق
الاستقرار الاقتصادي المرجو".
ولفت إلى أن
رؤية الصندوق تلك تشكلت نتيجة "لفشل الحكومة في اتخاذ مجموعة من الإجراءات في
إطار إصلاح السياستين النقدية والمالية، بما يؤدي إلـى القـضاء علـى الاختلالات
الهيكلية القائمة، والحد من تمويل العجز في الموازنة العامة من مصادر تضخمية".
وأشار البهائي
إلى أن "هذا ما جعل الصندوق مصمم على أن يتولى بنفسه تنفيذ برنامج القرض
الجديد لمواصلة الإصلاحات الاقتصادية".
وأكد أن
"الدول تبرم اتفاقيات مع صندوق النقد عندما يحدث تدهور بأدائها الاقتصادي
بصورة تفقد حكوماتها بوصلة القيادة الاقتصادية، وكذلك لتفاقم معدلات التضخم
السنوية بها وبلوغها أعلى مستوياتها، أما في مصر فهناك شئ غير مفهوم".
ويرى أن هذا
الشيء غير المفهوم "يدل على حدوث تقصير وعدم تقدير وتقديم دراسة جيدة للوضع
الاقتصادي، فالتضخم يظهر ويبلغ أعلى مستوياته بعد إبرام الاتفاق مع الصندوق والبدء
في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي، ما يجعل كل الجهد منصب لكبح جماح التضخم على
حساب النهوض والتنمية الاقتصادية التي من أجلها تم الاتفاق".
ويعتقد أن
"الحكومة المصرية أخفقت في برنامجها للإصلاح الاقتصادي والمالي في علاج
العوامل والاختلالات التي ساهمت في تغذية الضغوط التضخمية، حيث فشلت السياسات
المالية والنقدية الحكومية حتى الآن في علاج العوامل الداخلية وعلى رأسها زيادة
حجم السيولة المحلية".
وأكد أن
"ذلك يأتي كنتيجة للزيادة في حجم الاقتراض الحكومي من البنك المركزي، واعتماد
الحكومة في تمويل عجز الموازنة العامة من مصادر تضخمية عن طريق الاقتراض من
الأفراد والمؤسسات غير المصرفية من خـلال الاكتتـاب فـي سندات القروض العامة".