قضايا وآراء

ديمقراطيات حول المذبحة

عوني بلال
"جمهرة من أهم ديمقراطيات العالم لا تزال تدير مجزرة فريدة في طبيعتها"- الأناضول
"جمهرة من أهم ديمقراطيات العالم لا تزال تدير مجزرة فريدة في طبيعتها"- الأناضول
* يحتاج المرء صبرا جليلا حتى يحتمل إنشائيات المثقفين العرب وهم يبجّلون الديمقراطية في عز المجزرة الغزاوية؛ المجزرة التي تديرها وتمولها وتسلحها أهم وأعرق ديمقراطيات هذا العالم. يحتاج المرء صبرا جميلا حتى يحتمل الأفكار التي تخشّبت مع العقود وتحولت أصناما معبودة، ولم يعد الساجدون في محرابها يسألون أنفسهم لمن يسجدون حقا ولأي سبب. في الأسابيع الماضية ظهرت مقارنة شقّت طريقها بين الأشلاء وصور اللحم الممزق والمدن المهدومة: مقارنة المبادرة القضائية لجنوب أفريقيا مع الموت السريري للمنطقة العربية وغيابها عما يجري. وانفتحت حينها بوابة معروفة -ومحبوبة- لمديح الديمقراطية وهجاء الاستبداد؛ الديمقراطية التي مكّنت جنوب أفريقيا من فعل ما فعلته، والاستبداد الذي شلّ المقابل العربي وأقعده عن أي فعل (عدا فعل التواطؤ).

* ليس المديح بذاته مهما ولا الهجاء، فكلاهما صار تقليدا إنشائيا راسخا، ويصعب أن تجد مثقفا عربيا معاصرا لم يدبّج نصوصا تعبيرية في هذه الثنائية؛ تبجيلا في الديمقراطية وذمّا لنقيضها. لكنّ المهمّ الفعلي لا يتعلق هنا بما قيل أو كُتب، وإنما بالمسكوت عنه والغائب الذي لا يقال: الديمقراطية التي سمحت لجنوب أفريقيا أن تفعل ما فعلته، هي الديمقراطية التي سمحت للولايات المتحدة وأغلب أوروبا الغربية ومعها إسرائيل؛ أن يفعلوا ما فعلوه أيضا.

الديمقراطية التي سمحت لجنوب أفريقيا أن تفعل ما فعلته، هي الديمقراطية التي سمحت للولايات المتحدة وأغلب أوروبا الغربية ومعها إسرائيل؛ أن يفعلوا ما فعلوه أيضا.

ففي مقابل الصولة المشرفة لجنوب أفريقيا في محكمة العدل، فإن جمهرة من أهم ديمقراطيات العالم لا تزال -منذ مائة وأربعين يوما- تدير مجزرة فريدة في طبيعتها وهندسة إجرامها. هذه الدول، الوالغة في الدم وسحق العوائل تحت الأسقف والجدران، تدير اليوم آلة القتل والتجويع عبر نظام سياسي، يحب أنصاره أن ينعتوه "أقل الأنظمة سوءا"؛ أيُّ ورعٍ بارد! ورغم أنها ليست المرة الأولى، لكنها حتما الأوضحُ والأوقح: ها هو "أقل الأنظمة سوءا" يبرهن قدرته أن يكون أكثر الأنظمة التحاما بشريعة الحيوان.

* ضمن الاجتياح الغربي لخيالنا وإدراكنا، تبلورت الديمقراطية مسلَّمةً يبدأ التفكير من بعدها دوما لا من قبلها. الجدال يجري غالبا حول آلياتها، وأسباب غيابها، وأشكالها الأنسب، والإبداع الممكن في مواءمتها مع الخصوصية المحلية. هذه الاعتبارات والإشكالات لا تغير جوهر الأمر، فمِن خلفِها تجثو الصخرة الديمقراطية -بفكرتها ومفهومها- في قلب الخيال السياسي العربي، لا يزحزحها شيء. فكم عملا فكريا كُتب عربيا في رفض هذا النظام السياسي؟ في بيان توحشه الممكن تجاه الواقعين خارج مظلة "المواطنة" التي يقوم عليها؟

لا أتحدث عن أدبيات تكفير الديمقراطية ومهاجمتها لاعتبارات دينية؛ أتحدث عن رفضٍ للفكرة من منطلق نقدي "دنيوي" بحت. أليس هذا الغياب العربي مثيرا للريبة؟ ألا يُفترض بنظرية سياسية (لا فيزيائية) كائنة ما كانت، أن تجد رافضين لها ومتمترسين ضدها فكريا ونظريا؟ حتى أنصار الأنظمة العربية يتحدثون عن عدم نضج الشعوب للديمقراطية، ويقدّمون الديمقراطية بذلك طموحا نهائيا في المدى البعيد (سواء صدَقوا أم كذبوا في ادعائهم، وهم كاذبون بغير شك).

* بوسع المرء طبعا أن يحشد أمثلة مضادة، ويسرد دولا ديمقراطية أبدت سلوكا مغايرا لديمقراطيات العالم الغربي (كجنوب أفريقيا مجددا). وبوسع المرء أيضا أن يشير لحركات الاحتجاج الواسعة التي اجتاحت العواصم الأوروبية ضد المذبحة. لكنّ هذا لا يزيد الأمر إلا وضوحا: أن الديمقراطية ليست ضمانة لشيء، وأنها قادرة على توليد الموقف ونقيضه،
الديمقراطية ليست ضمانة لشيء، وأنها قادرة على توليد الموقف ونقيضه، وأن النافذة التي تفتحها للاحتجاج الشعبي، لا تعيق مؤسساتها وقواها النافذة عن فعل ما تشاء وإبادة من تشاء، وأن هذا التعقيد المؤسسي والمشهدية المركبة للتشريعات والقوانين وفصل السلطات وآليات الرقابة وسلطة القانون و"القيم الديمقراطية"، كلها وجميعها، لا تردع هذه الدول عما نراها منغمسة فيه اليوم: محاصرة مليونيّ إنسان في قفص ثم التفنن العسكري بكسرهم وإفنائهم.
وأن النافذة التي تفتحها للاحتجاج الشعبي لا تعيق مؤسساتها وقواها النافذة عن فعل ما تشاء وإبادة من تشاء، وأن هذا التعقيد المؤسسي والمشهدية المركبة للتشريعات والقوانين وفصل السلطات وآليات الرقابة وسلطة القانون و"القيم الديمقراطية"، كلها وجميعها، لا تردع هذه الدول عما نراها منغمسة فيه اليوم: محاصرة مليونيّ إنسان في قفص ثم التفنن العسكري بكسرهم وإفنائهم.

* عندما وصل دونالد ترامب للبيت الأبيض، انفجرت ينابيع بغير عدّ في العالم العربي للتنظير في مسألة الشعبوية. وكالعادة، كان الأمر في جُلّه محاكاة للاهتمام الغربي الصاعد بهذا المفهوم، الذي ولّدَه حدث غربي بحتٌ هو الآخر: وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض. وقُدّمت الشعبوية بوصفها خطرا يتهدد الأنظمة الديمقراطية، وانفتح النقاش الكبير حول سبل مواجهتها والتغلب عليها. أين هذا الجهد الفكري اليوم ونحن نرى فعل الديمقراطيات الغربية وسط أرضنا وعلى أشلاء شعبنا؟ لا قيمة للتنظير السابق في المسألة الشعبوية هنا، فالرئيس الأمريكي، جو بايدن، أبعد ما يكون عن هذه السمة، ولا يختلف عنه -بهذا المعنى- شركاؤه الأوروبيون في المجزرة الحالية. ألا تستوجب المجزرة الغزاوية مراجعة نقدية لمجمل الفكرة الديمقراطية؟ أم هل يتحتم على تيار فكري غربي أن يتحرك قبلنا بهذا الاتجاه حتى نبدأ نحن؟

* في صنعاء، تدير حكومة لا يكاد يعترف بشرعيتها أحد في العالم، ولا تمتّ للديمقراطية الغربية بصلة، سواء برؤيتها لنفسها أو رؤية أنصارها أو رؤية خصومها طبعا، ورغم ذلك قدّمت في سياق الحرب الحالية خطابا وسلوكا استثنائيا في إقدامه وجرأته، ومارست مخاطرة عسكرية كبرى تجاه نفسها، وفرص استقرارها الاقتصادي والسياسي تثبيتا لمبدأ تضامن مع أبناء القطاع ومقاومته. ولا زال اليمن في كل أسبوع يشهد أكبر مظاهرات العالم بأسره إسنادا للقطاع، فماذا يبقى من ادعاء "غياب الديمقراطية"
ليست المسألة ترويجا لنظام دون آخر، ولا دفعا لخيار على حساب سواه، بل محاولة لقول البديهي المحرّم: أن هناك أكثر من خيار، وأن فضاء السياسة لا يختزل بثنائية الديمقراطية والاستبداد، فهذه فريةٌ ديمقراطية وجزء من استبدادها بالخيال.
سببا لخذلان الدول العربية وسكون شوارعها وهزالة مظاهراتها؟ من الواضح أن الشرط الديمقراطي هنا مجرد كلام إنشائي، فها نحن أمام بنية سياسية غير ديمقراطية قادرة على فعل تضامني وإسنادي مؤثر كهذا.

* يقود هذا كله لسؤال سيبدو خروجا عن الموضوع لكنه في قلبه: ماذا كُتب عربيا عن هذه البنية السياسية في صنعاء خارج إطار الدعاية والتنابز بالألقاب؟ كم كتابا عربيا متخصصا قَدّم دراسة لهذه الظاهرة السياسية التي يمثلها أنصار الله، التي هي اليوم محط انتباه العالم بأسره؟ ومتى سيجد العرب الغارقون في الكتابة عن أدورنو والترجمة لماكس فيبر والتعريف بفيتغنشتاين؛ وقتا ليَنظروا في ما يجري في جوارهم وفي قلب قضاياهم وأهم ظواهرهم السياسية؟

* مسألة اليمن ضرورية في سياق حديثنا؛ لأن الفراغ المعرفي والبحثي الذي تكشفه يعود ويؤكد مطلع الحديث كلِّه؛ هذا الارتهان الفكري المذلّ لمسلّمات وأولويات آتية من كل حدب إلا مِن حدبنا، ومن كل صوب إلا من صوبنا. ليست المسألة ترويجا لنظام دون آخر، ولا دفعا لخيار على حساب سواه، بل محاولة لقول البديهي المحرّم: أن هناك أكثر من خيار، وأن فضاء السياسة لا يختزل بثنائية الديمقراطية والاستبداد، فهذه فرية ديمقراطية وجزء من استبدادها بالخيال.
التعليقات (0)