لا يغيب عن القارئ لتاريخ
الغرب ملاحظة العقلية
العنصرية الاستعلائية، بجذورها الإغريقية والرومانية ثم الصليبية، وكيف أن هذه
العقلية قد تعاملت باحتقار وعنف مع الآخر، وكيف تشبعت حتى النخاع بكل عوامل الصدام
وكل سمات الشخصية الرافضة للآخر والعمل على استئصاله، حتى لو كان هذا الآخر من
داخل حضارة الغرب ذاتها!
فإذا تأملنا في تعامل الغرب مع العالم، ولا سيما منذ
حقبة "الكشوف الجغرافية"،
باعتبارها الحقبة المؤسسة للعولمة المعاصرة، وجدنا حرصا شديدا على الهيمنة
والاستئثار بثروات الشعوب، بغض النظر عن الوسائل لذلك، فلقد كان ذلك من خلال
ارتكاب أبشع جريمتين ارتكبتا في حق الإنسانية:
فلقد جاء تعامل الغرب مع القارة السمراء معبّرا عن
استهانة كبيرة واحتقار بلا حدود، وتحول الإنسان الأفريقي في ظل ذلك إلى مجرد حيوان، يتم اصطياده ثم نقله من
مكان إلى مكان، ومن قارة إلى قارة في قفص من حديد عبر البحار والمحيطات، دون
اختيار أو إرادة، بل بالجبر والإكراه، وإذا قاوم كان مصيره القتل بالإلقاء من على
ظهر السفن ليستقر في قعر الأطلنطي، كي يكون طعاما لوحوش البحر، وإذا لم يقاوم ظل
عبدا رقيقا للرجل الأبيض مدى حياته..
جاءت حركة "الكشوف الجغرافية" بعد الفشل النهائي لـ"الحروب الصليبية"، وكانت من جانب آخر تمهيدا حقيقيا "للاستعمار الحديث"، فلقد ظل هاجس الحروب الصليبية مسيطرا على أذهان الأوروبيين حتى جاءت حقبة الكشوف الجغرافية التي رفعت أيضا راية "الصليب"، وإن كان محركها الرئيس هو البحث عن الذهب وإشباع غريزة الجشع
إنها العبودية التي لم تتخلص منها الولايات المتحدة
زعيمة العالم الحر إلا منذ عقود فقط، ولا يزال يعاني منها أصحاب الأصول الأفريقية
حتى اليوم، حيث العنصرية التي لا زال يصرخ منها أصحاب البشرة السمراء ولا مجيب. ولقد
تعرض لذلك المصير ما يقرب من مائة مليون أفريقي "أسود"، مات منهم أثناء
عملية النقل ما يقرب من عشرين مليونا..
أما الجناية الثانية، فهي جناية إبادة الملايين من سكان
القارة الأمريكية الأصليين تحت دعاوى الاستكشاف والتعمير، وهي إبادة استعملت فيها
أبشع الوسائل!
لقد جاءت حركة "الكشوف الجغرافية" بعد الفشل
النهائي لـ"الحروب الصليبية"، وكانت من جانب آخر تمهيدا حقيقيا "للاستعمار
الحديث"، فلقد ظل هاجس الحروب الصليبية مسيطرا على أذهان الأوروبيين حتى جاءت
حقبة الكشوف الجغرافية التي رفعت أيضا راية "الصليب"، وإن كان محركها
الرئيس هو البحث عن الذهب وإشباع غريزة الجشع.
وقد ساعد أوروبا في نجاح حركتها الكشفية، أنها كانت
بحاجة ماسة إلى ما يخرجها من أوضاعها الاقتصادية المتردية، وكذلك التفوق العلمي
المفاجئ الذي تعلمته من الصين، وخاصة البارود والبوصلة والطباعة. وقد استباح الأوروبيون
كل الثروات التي وقعت تحت أيديهم "البيضاء"، ولا سيما الذهب الأفريقي،
واستعبدوا كل الشعوب التي وقعت عليها عيونهم الزرقاء، فكانت "تجارة الرقيق"
هي أول استثمار دولي لرأس المال على نطاق واسع!
جاءت "الحقبة الاستعمارية" الحديثة محملة بأكبر قدر عرفته الإنسانية من الاستعلاء والعنصرية، ويكفيها أن التبرير الذي كان يسوَقه منظرو هذه الحقبة أنه "يستحيل على الله أن يودع في تلك الأجناس الملونة (كل ما عدا الأوروبيين) أرواحا طاهرة كأرواح البيض"، وهو ما يفسر الاستخفاف بمصائر الشعوب واستباحتها
وخلال هذه الحقبة حقق الأوروبيون مكاسب ضخمة من التجارة
والغزو والقرصنة والإبادة الجماعية والسخرة، وشكلت هذه المكاسب من الذهب والفضة
وتجارة الرقيق والمحاصيل الزراعية أول تراكم رأسمالي في أوروبا، وهو الذي ساهم
بدور كبير في مرحلة التوسع الرأسمالي، وتكوين ظاهرة "الاستعمار"، فجاءت "الحقبة الاستعمارية" الحديثة
محملة بأكبر قدر عرفته الإنسانية من الاستعلاء والعنصرية، ويكفيها أن التبرير الذي
كان يسوَقه منظرو هذه الحقبة أنه "يستحيل على الله أن يودع في تلك الأجناس
الملونة (كل ما عدا الأوروبيين) أرواحا طاهرة كأرواح البيض"، وهو ما يفسر
الاستخفاف بمصائر الشعوب واستباحتها!
ثم إن المتابع للصراع المرير الذي تفجر خلال "القرن العشرين" داخل أوروبا
ذاتها وبين أقطابها وعلى أرضية الدولة القومية الحديثة، يجد أول حربين عالميتين
تشهدهما الكرة الأرضية، ويجد طاقات هائلة من التدمير والعدوان لم يعرفها العالم من
قبل. "فالحرب العالمية
الأولى" (1914م)
بلغ عدد ضحاياها أكثر من 37 مليونا من البشر، كان عدد المدنيين الأبرياء منهم 30
مليونا، والحرب العالمية الثانية (1939-
1945م) بلغ عدد ضحاياها أكثر من 55 مليونا من البشر.
ثم يجد المتابع كيف تم استخدام القنابل الذرية لضرب اليابان،
برغم أنها كانت مستعدة للاستسلام.. ومن الغريب أن ذلك قد تم بإذن الرب ورعايته!
لهذا فقد أدى قس الفرقة الجوية 509 الصلاة للطيارين قبل أن تقلع بهم الطائرة
الحاملة لأول وحش ذري محا هيروشيما ومن عليها من الوجود، داعيا: "أيها الأب
القوي.. يا أب الرحمة، فلترعى هؤلاء الرجال، إنهم سيطيرون الليلة، احمهم واحفظهم
وجنبهم لعنات السماء واشملهم بعنايتك، ولتحفظ أجسادهم وأرواحهم وردهم إلينا سالمين.
هبنا الشجاعة والقوة في هذه الساعات التي نحن فيها، وكافئهم على جهودهم، أيها الأب
هب عالمك السلام ودعنا نسلك طريقنا في ثقتك وهديك، إنك موجود الآن وإلى أبد
الأبديين.. آمين"!
الصراع بين الرأسمالية والشيوعية، برغم اتساع مساحته الزمنية والجغرافية، كان يدار وفق اتفاق غير مكتوب، أما الصراع مع الإسلام، فهو الصراع مع النقيض الحضاري، وهو صراع مفتوح بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ
وما أن خرجت العقلية الغربية المشبعة والمولعة بالصدام
من نيران الحرب العالمية الثانية حتى ارتمت في ساحة
صراع جديد مع الإمبراطورية
الشيوعية، والذي لم يعبر في حقيقته عن صراع حضاري بقدر ما يعبر عن صراع على النفوذ
السياسي والمصالح الاقتصادية، لأن الشيوعية هي ابنة شرعية للحضارة الغربية، وذلك
لأن الغرب يدرك تماما أنه لا وجود لكيانه ولا استمرار لهيمنته إلا من خلال الصراع،
فهو الذي يجدد حيويته ويمدد نفوذه، ولهذا فهو يحافظ على استمرار وجود جبهات مفتوحة
مع الآخر ومع كل الآخرين، وإن جعل صراعه مع الإسلام هو الصراع المركزي، حيث توصل
من خلال صدامه مع الأمة الإسلامية عبر التاريخ إلى أن الإسلام يمتلك حضارة على
النقيض من حضارته المادية، وأنها تمتلك قدرة متجددة على النهوض واستعادة دورها
الحضاري مهما كانت الكبوات. ومن هنا تحديدا كان التفكير في زراعة الكيان الصهيوني
السرطاني في قلبها، ليمنعها من الالتئام ويعرقل نهضتها، وليكون قاعدة الغرب
العسكرية على الخطوط الأمامية.
لقد كان أكثر ما استقر في ذهنية الغرب عبر القرون مدى
قدرة الدين الإسلامي على تشكيل نفسية المقاومة، ومدى قدرة الأمة على الصمود في وجه
التحديات، بل مدى قدرتها على استعادة ذاتها في أوقات الأزمات الكبرى كما يقول "برنارد
لويس".. ولهذا لفت بعض الغربيين الانتباه إلى أن الصراع بين الرأسمالية
والشيوعية، برغم اتساع مساحته الزمنية والجغرافية، كان يدار وفق اتفاق غير مكتوب،
أما الصراع مع الإسلام، فهو الصراع مع النقيض الحضاري، وهو صراع مفتوح بكل ما تحمل
الكلمة من معانٍ، وليس أدل على ذلك من تحول الصراع مع ما سُمي بالأصولية الإسلامية
إلى حرب عالمية حقيقية!