تودع
تركيا عام 2023 بعد سلسلة من الأحداث الاستثنائية التي مرت بها، حيث شهدت الجمهورية التي بلغت مئويتها الثانية، أزمات اقتصادية وانتخابات رئاسية وكوارث طبيعية مدمرة ألقت بظلالها على كافة ملامح البلاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وفي حين تطوي تركيا صفحات العام الجاري الذي أطلق فيه الرئيس رجب طيب
أردوغان رؤية "قرن تركيا"، تدخل في سباق انتخابي محتدم مع اقتراب الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها نهاية آذار / مارس المقبل، حيث تعمل الأحزاب السياسية على لملمة أوراقها وبناء تحالفات جديدة من أجل الفوز ببلديات المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير، التي يرى مراقبون أنها تمهد طريق من يظفر بها للوصول إلى سدة الرئاسة.
زلزال قهرمان مرعش
وكانت تركيا قد بدأت العام 2023 بكارثة مدمرة وصفت في الأوساط المحلية بأنها "كارثة العصر"، حيث ضرب زلزال بلغت شدته 7.8 على مقياس ريختر المناطق الجنوبية، تلاه زلزال آخر بعد ساعات بقوة 7.7، ما تسبب في تفاقم الكارثة التي صنفت على أنها أكثر الكوارث الطبيعية التي ضربت المنطقة منذ سنوات فتكا، والأكبر في أوروبا خلال قرن، بحسب الأناضول.
وأسفر الزلزالان المدمران اللذان تركز أولهما في ولاية قهرمان مرعش التركية في جنوب البلاد، عن مقتل ما يزيد على الـ50 ألف شخص في تركيا بينهم المئات من السوريين اللاجئين، فضلا عن الدمار المادي الضخم الذي خلف ملايين النازحين بين عشية وضحاها، وفق هيئة إدارة الكوارث والطوارئ التركية "آفاد".
وانعكست الكارثة على العلاقات الخارجية، حيث سارعت نحو 70 دولة إلى إرسال فرق بحث وإنقاذ من أجل انتشال الضحايا على مدى أسابيع، الأمر الذي ساهم في ذوبان جبال الجليد بين تركيا والعديد من الدول، لا سيما اليونان التي شهدت علاقاتها بأنقرة توترا عاليا بلغ درجة التلويح بالصدام العسكري.
وفي 15 آذار/ مارس، فإن 17 شخصا لقوا حتفهم جراء فيضانات عنيفة ضربت شانلي أورفا جنوب البلاد، وقدرت الأضرار التي سببتها الكارثة الطبيعية للمنازل وأماكن العمل والمركبات في شانلي أورفا بـ 300 مليون ليرة.
وخلال أشهر الصيف، اندلعت العديد من الحرائق الهائلة من مناطق مختلفة من تركيا بفعل ارتفاع درجات الحرارة، لاسيما في ولاية "جناق قلعة" الواقعة شمال غرب البلاد، حيث تسبب حريق الغابات في إغلاق مضيق الدردنيل.
أردوغان رئيسا مجددا
لم تكد تركيا التي أعلنت في شباط/ فبراير، 11 ولاية على أنها مدن منكوبة جراء الزلزال، تنفض عنها غبار الكارثة حتى دخلت في سباق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وسط حالة من التنافس والاستقطاب وانقسام الشارع بين تحالفين هما "الجمهور" بقيادة أردوغان وحفليه القومي دولت بهشلي، وتحالف "الشعب" المكون من 6 أحزاب معارضة على رأسها "الشعب الجمهوري".
وأسفرت الانتخابات التي شهدت منافسة حامية عن فوز أحزاب تحالف الجمهور بالأغلبية في البرلمان في 14 أيار/ مايو، فيما انتقل أردوغان الذي لم يتمكن من حسم النتيجة في الدورة الأولى، مع منافسه كمال كليتشدار أوغلو، مرشح أحزاب المعارضة التي عرفت بـ"الطاولة السداسية"، إلى جولة انتخابية ثانية، حصل فيها أردوغان على 52.18 بالمئة من أصوات الناخبين، ليكمل مهامه رئيسا للبلاد لولاية جديدة تمتد حتى عام 2028.
وفي أولى قراراته عقب الانتخابات، عمد الرئيس التركي إلى تغيير تشكيلته الحكومية مستبعدا جميع الوزراء السابقين سوى وزيري الصحة والسياحة، الأمر الذي آذن بتوجه مختلف جذريا لأردوغان في ولايته الجديدة، لاسيما على الصعيدين الاقتصادي والعلاقات الخارجية، إذ قام بتعيين رئيس الاستخبارات آنذاك هاكان فيدان وزيرا للخارجية، وقلّد محمد شيمشك المعروف بمعارضته لسياسة تخفيض الفائدة التي تم انتهاجها خلال السنوات الأخيرة، مهام وزارة الخزانة والمالية.
سياسة اقتصادية جديدة
لا شك أن أبرز توجهات حكومة أردوغان الجديد، تمثل في سياسات الفريق الاقتصادي الذي شكله عماده الأول وزير المالية محمد شيمشك، والثاني محافظة البنك المركزي الجديدة حفيظة غاية أركان، أول سيدة تتولى مهام رئاسة المركزي التركي في تاريخ الجمهورية.
وتعهد شيمشك في أول خطاب له بعد تقلد مهام منصبه الجديد، بالعودة إلى اتباع سياسات أكثر تقليدية تتضمن رفع أسعار الفائدة تدريجيا، مع التعهد بالتخلي عن عشرات اللوائح السابقة لكبح التضخم وتقليل العجز التجاري، ومنح الثقة الكافية للمستثمرين الأجانب للعودة إلى السوق التركية.
اظهار أخبار متعلقة
وبعد نهج أردوغان الاقتصادي الذي خفض الفائدة على مراحل متتالية إلى 7.5 بالمئة، قام الفريق الاقتصادي الجديد برفع معدلات الفائدة منذ شهر حزيران/ يونيو الماضي إلى 42.5 بالمئة على 7 مراحل، فيما واصلت قيمة الليرة التركية التراجع إلى أن تجاوز سعر صرفها الحالي حاجز الـ29 أمام الدولار الواحد، علما بأن قيمة العملة المحلية في تركيا انخفضت بنحو 35 بالمئة خلال 2023.
وارتفع معدل التضخم إلى 62 بالمئة تقريبا على أساس سنوي في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بعدما سجل 61.36 بالمئة في تشرين الأول/ أكتوبر، وفقا للبيانات الرسمية.
سعي نحو "صفر مشكلات"
أما على صعيد السياسات الخارجية، فقد طغى نهج "صفر مشكلات" على ملامح السياسات التركية مع دول الجوار والمنطقة على وجه الخصوص، بعد الزلزال الكارثي الذي ضرب المناطق الجنوبية، حيث أدت "دبلوماسية الزلزال" في تخفيف حدة التوترات بين أنقرة والعديد من العواصم العربية والأوروبية.
وكان وزير الخارجية المصري سامح شكري قدم إلى تركيا لأول مرة من 10 سنوات عقب الكارثة المدمرة مطلع العام الجاري، من أجل إظهار التضامن مع الشعب التركي، في خطوة افتتحت بُعدا جديدا في العلاقات بين البلدين الإقليميين التي تأزمت بشدة على خلفية الانقلاب العسكري على الراحل محمد مرسي أول رئيس مصري مدني منتخب عام 2013.
وتراجعت حدة التوترات بين تركيا والعديد من دول الخليج، على رأسها الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وفي الخامس من شهر كانون الأول/ ديسمبر الجاري حضر أردوغان ضيفا في قمة قادة دول مجلس التعاون الخليجي بنسختها الـ44، التي استضافتها العاصمة القطرية الدوحة.
وأصدر أردوغان مرسوما رئاسيا بعد أيام من القمة الخليجية، يقضي بمنح حاملي جوازات السفر العادية لكل من البحرين والسعودية والإمارات وسلطنة عمان، إعفاء من التأشيرة عند القدوم إلى تركيا.
وامتدت مساع أنقرة لخفض مستوى التوترات مع دول المنطقة، إلى النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، بعد سنوات من قطع العلاقات بين الجانبين عقب اندلاع الثورة السورية عام 2011 وتدفق ملايين اللاجئين إلى الأراضي التركية، حيث قال أردوغان في تموز/ يونيو الماضي إنه لا يمانع لقاء الأسد.
إلا أن المبادرة التركية اصطدمت بتعنت رئيس النظام السوري الذي اتهم أنقرة بدعم ما وصفه بـ"الإرهاب" في سوريا، خلال لقاء أجراه مع قناة "سكاي نيوز عربية" في آب/ أغسطس.
وبعد اندلاع العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، استدعت أنقرة سفيرها لدى الاحتلال شاكر أوزكان تورونلار للتشاور، وندد أردوغان غير مرة بجرائم الاحتلال بحق المدنيين الفلسطينيين، متعهدا بوضع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أمام القانون الدولي لمحاسبة على جرائم الحرب والمذابح الإسرائيلية.
وعلى الصعيد الأوروبي، فقد زار الرئيس التركي في السابع من كانون الأول/ ديسمبر أثينا لأول مرة بعد سنوات من توتر العلاقات بين البلدين على خلفية العديد من الملفات الشائكة، بينها قضايا عبور المهاجرين والغاز وتسليح جزر بحر إيجه والقضية القبرصية.
اظهار أخبار متعلقة
وتحدث أردوغان عن "فتح صفحة جديدة" وعن مبدأ "رابح-رابح" في العلاقات بين بلاده واليونان. وكان زلزال جنوب تركيا تسبب في إذابة جبل الجليد بين البلدين المتجاورين، حيث كان وزير الخارجية اليوناني أول الواصلين إلى أنقرة عقب الكارثة.
وفي 26 كانون الأول/ ديسمبر، وافقت لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان التركي على إحالة ملف عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي، إلى الجمعية العامة للتصويت عليه قبل أن يصبح قرارا نافذا، وذلك بعد تعهد ستوكهولم خلال قمة الناتو في ليتوانيا في تموز/ يونيو على الحد من نشاط حزب "العمال الكردستاني" الذي تدرجه أنقرة على قوائم "الإرهاب"، بالإضافة إلى طلب الرئيس الأمريكي جو بايدن من نظيره التركي تمرير عضوية السويد بالناتو من البرلمان، لتمرير ملف شراء أنقرة مقاتلات إف-16 من الكونغرس.
الوضع الداخلي
أما على الصعيد الداخلي، فقد شكل انفراط عقد المعارضة التي اجتمعت على طاولة واحدة من أجل الإطاحة بأردوغان خلال الانتخابات الرئاسية، أبرز الأحداث الداخلية خلال العام.
وتسبب فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة، في اندلاع الخلافات بين أحزاب "الطاولة السداسية" المعارضة، وتسببت الهزيمة الثقيلة التي مُني بها مرشح المعارضة للرئاسيات حينها، كمال كليتشدار أوغلو، بالإطاحة به من رئاسة حزب "الشعب الجمهوري".
وفي 4 تشرين الأول/ نوفمبر، أطاح رئيس الكتلة البرلمانية لنواب حزب الشعب الجمهوري سابقا، أوزغور أوزال، بكليتشدار أوغلو، من زعامة الحزب في انتخابات داخلية، ليصبح الزعيم الـ 13 للحزب.
وخلال أشهر الصيف، شنت السلطات التركية حملة ترحيل مفاجئة ضد اللاجئين السوريين إلى الشمال السوري، في إطار تكثيف أنقرة عملياتها ضد "المهاجرين غير النظاميين".
وشهدت البلاد في الفترة ذاتها ارتفاعا في حدة خطاب الكراهية ضد العرب واللاجئين السوريين، الأمر الذي أدى إلى وقوع عدد من الاعتداءات التي أسفرت إحداها عن وفاة مواطن مغربي في مدينة إسطنبول، ما أسفر عن إطلاق حملات لمقاطعة السياحة في تركيا في عدد من الدول العربية، فيما شدد الرئيس التركي في أكثر من مناسبة على أن بلاده لن تسمح بالعنصرية والكراهية ضد الرعايا الأجانب بالانتشار في المجتمع.
وفي الجانب الأمني، تعرضت مديرية الأمن التابعة لوزارة الداخلية بالعاصمة أنقرة لهجوم شنه مسلحان في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر، حيث ألقى المهاجمان قنابل على أبواب المبنى الأمني أسفرت عن إصابة شرطيين بجروح طفيفة، وتصفية المنفذين.
وتبنى حزب "العمال الكردستاني"، الهجوم على المديرية التركية، فيما سارعت أنقرة إلى شن سلسلة من الهجمات على مواقع تابعة للتنظيم في شمال سوريا والعراق.
وفي 23 كانون الأول/ ديسمبر، عاد "العمال الكردستاني" إلى واجهة الأحداث في تركيا عقب شنه هجوما على مجموعة من الجيش التركي شمال العراق، ما أسفر عن مقتل 12 جنديا تركيا وإصابة آخرين، ما دفع أنقرة إلى تجديد هجماتها على مواقع التنظيم والجماعات المرتبطة به في كل سوريا والعراق.