أغرب ما يمكن أن تسمعه هذه الأيام أن أطرافا رفعت لافتة محاسبة
المقاومة على “مغامراتها”، حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها، وفي ظل ما يكابده الفلسطينيون في
غزة من جرائم قتل وتجويع، وما تظهره الفصائل من صمود في وجه أقوى جيوش المنطقة.
وخلال الأيام الأخيرة، خرج رموز في
السلطة الفلسطينية إلى العلن وعبر وسائل إعلام محدّدة بتصريحات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها عملية شحذ سكاكين تحضيرا لمرحلة ما بعد العدوان، وحتى طعن المقاومين في الميدان في ظهورهم، لأسباب بعضها خفي والآخر مفضوح.
وكان الجميع يتابع منذ بداية معركة “طوفان الأقصى” حملاتٍ ضد المقاومة من طرف الذباب الإلكتروني ومن يسمّون “حزب الليكود العربي”، وهم يمثّلون شرائح في المجتمعين العربي والإسلامي نفضت يدها من قضية فلسطين، وينام بعضهم على أمل أن يستيقظ على خبر ضم الاحتلال لهذه الأراضي بما فيها القدس الشريف.
لكن العجيب هذه المرة أن الحملة تلقّفها من كنا ننظر إليهم على أَنهم حاملو لواء التحرير وحماية الحقوق الفلسطينية، وقد يكون الاختلاف في النهج والمقاربة السياسية، لكن أن يصل الأمر إلى حد الطعن في تضحيات إخوانهم، فالأمر يستحق التوقف عنده طويلا.
وكما يطالب هؤلاء، يجب فعلا محاسبة المقاومة وعلى رأسها “حماس” لأن استطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية تؤكد أن 72% ممن شملتهم الاستطلاعات يؤيدون عملية “طوفان الأقصى”، وأن أكثر من 60% من الفلسطينيين الذين شملتهم يرون أن “المقاومة هي الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال”، وهو بمثابة نفخ الروح في هذه القضية التي كانت تنتظر التصفية.
ويجب محاسبة “حماس” لأن هذه الحرب ورغم الثمن الباهظ لها، إلا أنها جعلت الرأي العام الدولي ينقلب على السردية الصهيونية التي أنفقت عليها لوبياتهم المليارات طوال عقود، فقد أظهر استطلاع لمعهد “هاريس” ومركز الدراسات السياسية الأمريكية بجامعة “هارفارد” وشمل ألفي ناخب أمريكي من فئات عمرية مختلفة، أن 51% من الشباب من هذه الفئة العمرية يعتقدون أن الحل طويل المدى للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو “إنهاء إسرائيل وتسليمها لحماس والفلسطينيين”.
ويجب محاسبة المقاومة و”حماس”، لأن تحقيقات نشرتها وسائل إعلام عبرية أظهرت أن 83 بالمائة من المنشورات عبر الشبكة العنكبوتية والمتعلقة بالحرب هي ضد إسرائيل و9% فقط لصالحها، وفي المواقع الإخبارية الكبرى مقابل كل تقرير إيجابي تجاه إسرائيل، هناك 3 تقارير تقدّم إسرائيل بشكل سلبي.
ويجب محاسبة المقاومة، لأن قادة الاحتلال وإعلامهم يعترفون بأن هجمات 7 أكتوبر هي الأكثر إيلاما لهم منذ تأسيس الكيان، وأنها أعادت لمجتمعهم إحساسا بعدم الأمن، وأن قرابة نصف مليون مستوطن غادروا إسرائيل، فضلا عن أن مستوطنات غلاف غزة هجرها أهلها ويرفضون العودة إليها من دون التحقق من تأمينها.
ويجب محاسبة المقاومة و”حماس”، لأن السلطة الفلسطينية ومعها الدول العربية مجتمعة كانت إلى غاية يوم 6 أكتوبر الماضي تستجدي إسرائيل وحاميتها أمريكا لتحريك عجلة “السلام” المتوقفة، من أجل بحث إقامة دولة فلسطينية وسط غياب كلي للقضية عن الأجندة الدولية، وكانت هذه المطالب تقابل بالسخرية من قادة اليمين في إسرائيل، لكن واشنطن وحلفاءها الغربيين يرفعون اليوم لواء إقامة هذه الدولة كحل للصراع القائم.
ويجب محاسبة المقاومة، لأن مفاوضات 30 سنة منذ اتفاق أوسلو 1993 لم تحرّر أسيرا واحدا، لكن الفصائل حررت الآلاف وأغلبهم من الضفة الغربية وليس من معقلها بغزة، كما أن عقودا من المفاوضات كانت نتيجتها قضم 40 بالمائة من الضفة الغربية فقط، فيما حررت المقاومة غزة عام 2005، كما بنت قوة عسكرية يقف الكيان ومعه حلف من عدة دول غربية كبرى عاجزين عن تركيعها، وبعد أسابيع من عدوان همجي، ينتظرون إشارة من “حماس” للتفاوض حول الأسرى والهدنة لكن المقاومة تضع شروطا لذلك.
والمؤسف في هذه القضية كلها أننا كنا ننتظر خطابا للمصالحة ونبذ الانقسام واستغلال نتائج هذه المعركة والبناء عليها سياسيا، من أجل التوافق حول مرحلة جديدة لفرض إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، في ظل هذا الزخم الدولي وحالة الوهن التي يعيشها الاحتلال والتي ستتعمّق أكثر بعد أن تضع الحرب أوزارها.
(الشروق الجزائرية)