قبيل ركوبها سيارة الصليب الأحمر، وبصوت ملؤه الود والفرحة والصدق، وأمام
الكاميرات، قالت الفتاة المحتجزة لدى
المقاومة الفلسطينية لحاجزيها وبلغة تمتزج
فيها العربية بالإنجليزية، "باي.. شكرا"، كلمة توديع صحبتها نظرة صادقة
عبرت عن شكر وامتنان، أكده باقي المحتجزين في وداعهم لعناصر المقاومة، سواء من
النساء اللائي ألقين التحية على رجال المقاومة بنفس الود، أو من الشباب ما دون الثامنة
عشرة، الذين سمح الاتفاق بتحريرهم، والذين زادوا في إظهار نفس المودة باحتضان شباب
المقاومة المشرفين على عملية التسليم. ولأن العيون لا تكذب، فقد أكدت أن تلك
التحية وهذه الأحضان لم تكن إلا رد فعل طبيعي على ما لاقوه من ود وحسن معاملة.
إذا كانت هذه المشاهد التي حركت العالم، لم تكن سوى زرع زرعته المقاومة
خلال الخمسين يوما الماضية، فأخرج شطأه واستوى على سوقه فأغاظ به نتنياهو وحكومته
ومن دعمهم من الغرب؛ ودعا إلى إنشاء تحالف لمحاربتها بعد أن اتهمها بالإرهاب، فإن
هذه المشاهد سواء في
غزة أثناء التسليم، أو في الكيان المحتل بعده، تكررت سواء على
المستوى العام، بعد أن عقدت المحتجزة "
الإسرائيلية" يوخفد ليفشيتز مؤتمرا
صحفيا، أكدت فيه حسن معاملة المقاومة لها ولكل من معها من محتجزين، بتقديم
الطعام المتاح والدواء، أو على المستوى الخاص بين أصدقاء في المحتجزين وأهلهم بعد
عودتهم.
وعلى الرغم من أن هناك أطروحات بأن الأجيال تختلف في تعاطيها مع المقاومة،
فهناك من يرى أن الأجيال القديمة في الكيان المحتل يكنون للمقاومة بغضا وكراهية
كبيرة، وأن الأجيال الجديدة لا تهتم كثيرا حتى بما يتم تدريسه لهم في المدارس، ويرون أن التجنيد الإجباري يضيع من عمرهم أشهرا؛ في زمن يتاح فيه السفر وفرص العمل
في دول أكثر أمانا بعيدا عن فوبيا المقاومة والصراع، إلا أن شهادة ليفشيتز عن
المقاومة هدمت هذه الأطروحة.
ولعل الشهادات التي تؤكد حسن المعاملة من قبل المقاومة، ترجع للعديد من
الأسباب؛ أولها وأهمها هو تحقيق انتصار جديد على المستوى الإعلامي، يضاف إلى ما حققته
المقاومة خلال الخمسين يوما الماضية، رغم الدمار والشهداء والمصابين ضحايا الآلة
الحربية للاحتلال، انتصارا حققته المقاومة على السردية الرسمية والإعلامية
للاحتلال، وكذا الآلة الإعلامية الغربية التي ساندت بقوة الطرح
"الإسرائيلي" لشيطنة المقاومة، وتثبيت فرية الإرهاب، ونزع صفة المقاومة
عنها، وإظهارها كوحوش، كما حصل باختراق تنظيم الدولة،
فوقع من وقع من أتباع التنظيم في فخ استخدامهم لشيطنة كل ما هو إسلامي، وهو ما
أزالته المقاومة ووضعت الأمور في نصابها، وذلك لم يكن ليكون إلا بتماسك المقاومة، ونفيها لخبث الجواسيس والعملاء عن دوائر صنع القرار، على عكس "الشركة
المساهمة للمخابرات العالمية" تنظيم الدولة.
الأمر الثاني الذي دفع المقاومة إلى حسن معاملة المحتجزين والأسرى، هو جنوح
هؤلاء البشر للتخلص من حياتهم في وقت الأزمات، فبحسب البرنامج الوطني لمنع حالات
الانتحار بوزارة الصحة "الإسرائيلية"، فإن حالات الانتحار المثبتة 500
شخص سنويا، إلا أن محاولات الانتحار تبلغ أكثر من ستة آلاف شخص، مع اعتراف الوزارة
وبرنامجها المتخصص، بأنه يوجد نقص تبليغ بنسبة نحو 23 في المئة في الأعداد
المذكورة، ما يعني أن ما يزيد عن 700 شخص ينتحرون سنويا في الكيان المحتل، ذلك من
دون ظروف احتجاز أو تغييب، فما بالنا عندما يوضع "الإسرائيلي" تحت ظروف
احتجاز وحرب، يضاف لها قيام قيادته العسكرية والسياسية بتفعيل عقيدة
"حنبعل"، وهي عقيدة حربية مفادها التخلص من الأسير حتى لا يشكل عبئا أو
ورقة ضغط على القيادة العسكرية والسياسية للكيان، وهو ما جعل المقاومة تحسن
معاملتهم، حتى وصل الأمر، كحالة الأسير جلعاد شاليط، أن كان شباب المقاومة يسامرونه
ويمارس معه رياضة كرة القدم، بحسب مصادر من المقاومة.
الأمر الثالث الذي جعل نظرة المحتجزين "الإسرائيليين" بهذا الصدق
في مشاعرهم وهم يحيون المقاومة، أن الكثير من قيادات المقاومة الذين يشرفون على
المحتجزين والأسرى، كانوا أسرى في السابق، ولا يريدون أن يشعروا المحتجز أو الأسير
ما شعروا به من مذلة ومهانة في سجون المحتل، في حين يتفاخر المحتل في دوائره
المجتمعية بإذلال الأسرى الفلسطينيين، حتى بات في مكنون العقل الجمعي
"للإسرائيليين" أن الأسير الفلسطيني يُذل في سجونهم، ويعرفون ذلك جيدا،
حتى ولو لم يعلن على الملء، وهو ما يرسخ لدى المحتجزين والأسرى حقيقة المقاومة، وكذب وعنصرية قادة الاحتلال وإعلامه.
لقد كانت تحية الفتاة "الإسرائيلية" مايا ريغيف، في أثناء صعودها
إلى سيارة الصليب الأحمر منذ أيام للقسامي الذي أوصلها للصليب الأحمر، وتلفّظها
بلغة عربية ركيكة بكلمة "شكرا" في إعجاب طفولي، إنما هو أصدق دعاية
للحالة التي استطاعت المقاومة صناعتها في علم العلاقات العامة، بل وسطرت معها دروسا
في الكفاح والنضال، فنشأ جيل يعرف حقيقة النضال، فحفر في الصخر للأمة كافة بدمائه
فرض الدفاع عن الدين والأرض والعرض.