قضايا وآراء

قرية بارلي الحدودية بين بلجيكا وهولندا.. شاهدة على سخافة الخلافات العربية العربية!

طه الشريف
الحدود البلجيكية الهولندية-  Jérôme Kunegis (ويكيبييديا)
الحدود البلجيكية الهولندية- Jérôme Kunegis (ويكيبييديا)
شاهدت دون قصد فيلما تسجيليا عن قرية أوروبية تسمي "بارلي"، تتداخل فيها الحدود بين دولتين أوربيتين؛ إحداهما تضع قدماً في دولة، والثانية تضع قدمها في الدولة الأخرى!..

ولقد رأيت من السلاسة والمرونة في تعامل الدولتين (بلجيكا، هولندا) ومعهما المؤسسات المحلية، إضافة للسكان، في التعاطي مع واقعٍ غير مألوف، حتى صارت القرية مَعلما سياحيا يقصده السياح، ليشاهدوا روعة الاتفاق البشري في واقع لا تتوفر فيه غير عناصر الاختلاف!..

وتتداخل المناطق بين الدولتين المتجاورتين، وتسمى الأجزاء البلجيكية "بارلي هيرتوج" وتسمى الأجزاء الهولندية من القرية "بارلي ناسو"، هذا ولم يكتمل ترسيم الحدود بين الدولتين قبل عام 1995، على الرغم من استقلال بلجيكا عن هولندا عام 1831.

ويبلغ عدد سكان البلدتين 9000 نسمة، ولهم الحرية في تسجيل أسمائهم وبياناتهم في أي بلدية من البلديتين، بالإضافة لوجود مركزي شرطة ومكتبي بريد ومركزي إطفاء..إلخ، ولربما شاهدت موظفي البلدتين من رجال الشرطة ومصلحة استخراج الأوراق وغيرهم يعملون في مكتب واحد؛ كلٌ يتبع دولته ويعمل تحت علم بلاده!..

ولكل شطر من القرية عمدة تابع لبلاده، ولربما استخدم سكان أحد البلدتين المتداخلتين الرقم الدولي بينهما في إجراء المكالمات رغم وجود كل منهما ربما في شارع واحد، فالاختلافات في القرية الصغيرة حاضرة إلا في أمر واحد فقط؛ غرف الصرف الصحي والتي لا تخضع لأي حدود سيادية هنا أو هناك!

ومن أعجب ما تراه في قرية بارلي هو وجود الخطوط الفاصلة في شوارع القرية لإعلامك كزائر أو مقيم بأنك في سبيلك للعبور بين حدود الدولتين! ولربما جلست تحتسي القهوة على إحدى مقاهي البلدة لتشاهد الشريط الحدودي يمر بين كراسي وطاولات المقهى! بل وهناك ما هو أشد غرابة من ذلك حينما تطالع أحد المنازل وقد دُوَّن عليها رقمين مختلفين أحدهما تابع لبروكسل والثاني تابع لأمستردام، وليس ذلك وحسب، بل ويوجد لبعض المنازل بابين تدخل من أحدهما داخل الدولة البلجيكية وتخرج من الباب الآخر تحت إدارة الدولة الهولندية!

يحدث كل ذلك دون صدام أبله أو تصعيد ساذج أو كمائن للتفتيش، ولو حدث لهرب السكان ولما حضر السائحون ولما تسامع بها العالم بما يحدث خلال يوميات القرية.

وقد انصرفت بمخيلتي -كعادتي- تلكم التي لا تسمح لي بأن أهنأ بلحظات الاستمتاع وأنا أُنْصتُ بشغف أثناء متابعتي للفيلم التسجيلي، فجاءتني -مخيلتي- مسرعة بلا شفقة! بالصورة الكئيبة لواقعنا العربي السخيف في التعامل مع ملفات الحدود.

ويكفي القارئ مراجعة أي من الأزمات الحدودية داخل وطننا العربي، ليرى كمّ الجمود والتخلف بل والنشنج في التصعيد غير المبرر، وكأنها من الثوابت المستقرة لدينا حيال النزاعات البينية بيننا! ولسوف توقن -أو تكاد- بعد مشاهدة متأنية بأن تلك الأزمات قد صُنعت لتبقى بين الأشقاء!..

وسنأخذ مثالا نتحدث عنه مثل "أزمة الصحراء الغربية" بين الشقيقتين الجزائر والمغرب، نموذجا صارخاً لضيق الأفق عند العرب، ولدى القائمين على صناعة سياستنا الخارجية، ولن يسعفنا المقال للحديث عن بقية الأزمات الحدودية مثل: أزمة الحدود السعودية اليمينة، والحدود البحرية المصرية الليبية، والحدود البرية المصرية السودانية، وكذلك أزمة الحدود البحرينية القطرية، فأزماتنا كثيرة لكنك ستتفق معي أنها تُدار من غرفة عمليات واحدة!

أزمة الحدود البرية بين الجزائر والمغرب.. نموذج على سخافة الخلافات العربية العربية!

سنجد في هذه الأزمة، مع ما بين الشقيقتين من قواسم مشتركة كاللغة والدين والثقافة، في ظل سيطرة الخلافات المصطنعة -أحيانا- ربما للتحالفات الدولية الخاصة بكل دولة على حدة، أو للحسابات السياسية التي لا تلتفت إلا لمصلحة القُطر الواحد، بعض المسارات التي تنتهي بالحرمان من أي فرصة للتوافق والتعاون كما كان في الماضي؛ حينما اشتركت الدولتان في النضال ضد المستعمر الفرنسي، ولربما استفاد المستعمر من الماضي!

النشأة: كانت عام 1963م، حدثت ساعتها مواجهات عسكرية سميت بـ"حرب الرمال" والسبب: محاولات المملكة استرجاع منطقتي تندوف وبشار من الجزائر..

محطات:

- قطعت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب في آب/ أغسطس 2021، متهمة الرباط بـ"أعمال عدائية"، وهو ما أزعج المغرب..

- الجزائر توقف تدفق أنابيب الغاز المتجه إلى إسبانيا براً مرورا بالمغرب والاكتفاء بالأنبوب البحري لمدريد!..

- تصاعد التوتر بين الدولتين حينما اتجهت المملكة إلى التطبيع مع الصهاينة في مقابل الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على أراضي الصحراء الغربية! وقد ترافق ذلك مع إعلان إسبانيا دعمها لخطط المغرب الرامية إلى بسط سيادتها على الإقليم المتنازع عليه..

- وفي المقابل قدمت الجزائر دعمها لـ"جبهة البوليساريو" التي تعمل على استقلال الصحراء الغربية وعدم تمكين المغرب من إرجاعها إليه..

وهكذا دواليك!

ملاحظة: الغياب التام لأي محاولات صادقة لرأب الصدع في ظل حالة من الجمود في الرأي والتشنج في المواقف، وهو إعلان متكرر عن فشل الجامعة العربية على كافة الأصعدة!

خاتمة: سامح الله مخيلتي فقد صرفتني من حالة الاستمتاع بالفيلم التسجيلي عن "بارلي" لتذكرني بالصورة الكئيبة لسخافة الخلافات العربية العربية!
التعليقات (3)
كاظم صابر
الإثنين، 11-09-2023 04:27 م
أحترم وجهة نظر الأستاذ طه الشريف بل و أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك و هو أن الخلافات العربية-العربية من أسخف السخافات في ظل وضع دُولي شبيه بالغابة يفترس فيه القوي الضعيف . في تعليقه على قول الحقَ سبحانه و تعالى (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ,,,) ، قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما "هم فريقان: يُرْحَمُ فلا يَختلِف ، ولا يُرْحَمُ فيخْتَلِف". توضيح ذلك : روى أحمد والطبراني والبيهقي بسند صحيح من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجماعة رحمة، والفُرقة عذاب). لا يُمكِن لأي شخصٍ مُخْلصٍ لأمته أن يقبل بدوام الترتيب الاستعماري لبلادها أي التجزئة و تجزئة المُجزأ ، فالتنازع عواقبه وخيمة من فشل و خُسران و تسلط الأعداء على الأمة ، و انظر لقول رب العالمين : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). بوركت تلك الأقلام التي تدعو إلى نبذ الخلافات و إلى الوحدة و إلى التآلف و إلى هؤلاء أقول ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله : مَـــا أَبْـــعَـــدَ الْـــغَـــايَـــاتِ إِلَّا أَنَّــنِــي **أَجِــدُ الــثَّــبَــاتَ لَــكُــمْ بِـِـهِـنَّ كَـفِـيـلَا. فَــكِــلُـوا إِلَـى اللـهِ الـنَّـجَـاحَ وَثَـابِـرُوا** فَـــاللـــهُ خَـــيْـــرٌ كَـــافِـــلًا وَوَكِــيــلَا .
غريب
الأحد، 10-09-2023 07:12 م
أتفق العرب على ان لا يتفقوا. لا ننسى انه لا يوجد وطن عربي واحد ' او أمة عربية واحدة أنها كذبة صدقناها عندما كنا صغار . انه من صدفة الزمن ان هذه الدول تتحدث العربية لا شيئ يجمعها . هل الدول التي تتحدث الفرنسية دولة واحدة .الدول الناطقة بالعربية كل منها يغني على ليلاه .إذا سافرت إلى أي بلد من هذه الدول تعامل كاحنبي كفى كذب وأوهام ونفاق .
غزوان
الأحد، 10-09-2023 05:47 م
من يكتب مقال عليه ان يكون متوازنا في طرحه اما ان تميل كفته لطرف دون الاخر فيصبح مثالا للتطبيل الاعلامي الجزائر و المغرب كلاهما متورطان في الخلافات و لا نريد ان نذكر مآخذ الجزائريين على المغاربه حتى لا نتهم بالانحياز لطرف كما في المقال ثم الكاتب بسط الامور فلو كان بين الهولنديين و البلجيك مستعمر كالفرنسيين لاندلعت بينهم العداوة مثلما هو حال المغرب و الجزائر ..