شهدت
فرنسا في الأسبوعين الماضيين سجالات حادة رافقت وتلت انتفاضات عارمة وأعمال شغب في ضواحي مدن وداخل أحياء مدينية، بسبب قتل شرطي بطلقة نارية (من مسافة أربعين سنتيمتراً) لشاب في السابعة عشرة من عمره، كان خلف مقود سيّارة، ولم يمتثل لأوامر التوقّف.
النص التالي قراءة في
عنف الشرطة الفرنسية المُمأسَس (والعنصري في أغلب الأحيان) وفي بعض المقولات الهادفة إلى تجاهله والاكتفاء بِلوم المنتفضين وذويهم، التي استُخدِمت تكراراً من قبل وزراء في الحكومة الماكرونية ومسؤولين في الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرّفة ومن قبل معظم وسائل الإعلام المرئي الفرنسي وبعض الإعلام المسموع.
عنف الشرطة الفائض
تحوّل عنف الشرطة خلال التظاهرات أو خلال عمليات الاعتقال في السنوات الأخيرة إلى سلوك «مألوف» في فرنسا تسبّب بإصابة العشرات من الأشخاص بكسور نتيجة الضرب (بينهم صحافيون)، أو بجراح خطيرة بطلقات مطّاطية (خلال تحرّكات «السترات الصفراء» بخاصة). وتسبّب أيضاً بتحقيقات من القضاء وداخل مؤسسة الشرطة نفسها أفضت أحياناً إلى فصلٍ من الخدمة أو إلى عقوبات بالسجن ووعود بإصلاح المؤسسة الأمنية وأذرعها المختلفة، ظلّت حتى الآن من دون أفعال وإجراءات جدّية رادعة.
على أن الأمر الأخطر، والأكثر تهديداً لحياة أفراد محدّدين كما للشرطة نفسها بوصفها ضمانة للاستقرار ولحماية المواطنين والمقيمين، هو تصاعد عمليات القتل في حوادث إطلاق النار المباشر على سيارات لا تمتثل لأوامر التوقّف، وبعضها أوامر أكّدت تحقيقات عديدة انتفاء أسبابها الموجبة، أو هي حصلت بسبب «هويّة» السائقين. فالشرطة قتلت في هذا السياق 16 شخصاً خلال 18 شهراً (مقابل قتيل واحد في نفس الملابسات وفي نفس الفترة الزمنية في ألمانيا على سبيل المقارنة). وعبّر القاسم المشترك بين معظم الضحايا عن خصائص صغر سنّهم ولون بشرتهم الأسود أو اصولهم الشمال أفريقية، ومواقع قتلهم الحادثةِ غالباً في ضواحي المدن الكبرى أو في مدن عمّالية (سيتي) نشأت قبل نصف قرن وأخذت بالتوسّع تدريجياً دون مرافق رعائية وخدماتية وتعليمية كافية أو قادرة على مواكبة نموّها الديموغرافي.
وتشير الأبحاث الميدانية المنشورة (آخرها شمل عيّنة من 5 آلاف شخص ونشره «المدافع عن الحقوق»، وهو إدارة مستقلّة مُنشأة بموجب مراجعة دستورية العام 2008) أن احتمالات تعرّض الشبّان السود وذوي الأصول العربية للتفتيش الجسدي اللصيق من قبل الشرطة أو لأوامر التوقّف اعتباطياً «للتأكّد» من أوراقهم الثبوتية أعلى بعشرين مرّة من احتمالات تعرّض الشبّان البيض لذلك، وأن الفئة الأكثر استهدافاً بهذه الإجراءات من بينهم هي تلك الواقعة أعمارها بين 16 و25 عاماً. ويُشير 80 في المئة ممّن تعرّضوا للمساءلة أو التفتيش أن أسلوب مخاطبتهم فظّ ومهين وفيه إن اعترضوا تهديدات (موثّق بعضها بالفيديو) وإشارات عنصرية إلى أصولهم الفعلية أو المُفترضة.
في موازاة ذلك، تقدّر الدراسات الإحصائية أن 57 في المئة من عناصر الشرطة الوطنية باتوا منذ العام 2017 يصوّتون لصالح اليمين المتطرّف، وأن خطاب عددٍ من نقاباتهم صار أكثر تطرّفاً من خطاب اليمين المتطرّف نفسه.
وثمة عشرات الأطروحات الجامعية ومئات المقالات الاستقصائية الصحافية منذ أحداث العام 2005 المشابهة لما جرى مؤخّراً (تلت وقتها موت مراهقَين بعد هربهما خوفاً من الشرطة)، وثمة مئات البيانات لحقوقيين وعاملين في جمعيات ولعلماء اجتماع إضافة إلى مسرحيّات وأفلام وأغانٍ قديمة وجديدة معروفة في التراث الموسيقي البديل أو الاعتراضي، وبشكل خاص في موسيقى الـ«راب»، تتطرّق إلى مسائل العنصرية في المؤسسات الأمنية وإلى التهميش والكراهية والغضب وتراجع دور الدولة وخدماتها في الضواحي والأحياء الشعبية. كل هذا في وقت تزايدت التحدّيات الاجتماعية في فرنسا في ظلّ تحوّلات اقتصادية ليبرالية وفي ظلّ صعود أسئلة الهوية والدين ومعنى الاندماج وبروز نزعات عنفية لدى شرائح مختلفة (اعتبرت المخابرات الداخلية في آخر تقرير لها قبل أسبوع أن الشبكات الفاشية والنيو-نازية صارت تهديداً جدياً يضاف إلى التهديد الجهادي الإسلامي المستمرّ بحسبها منذ هجمات العام 2015).
يُضاف إلى ما ورد أن فرنسا، وهي من الدول الأوروبية الغربية التي لم تستقبل عدداً كبيراً من اللاجئين والمهاجرين في العقد الأخير، على العكس من ألمانيا مثلاً، ومن الدول التي لم تعتذر عن جرائم تاريخها الاستعماري، كما فعلت بلجيكا وهولندا مؤخراً، ما زالت تتعامل رسمياً مع «نفسها» وكأنها صاحبة «ثقافة» واحدة أو «تقاليد» محدّدة أو «قيَم» ثابتة. والأمر هذا لم يعد له معنى أو ترجمة حياتية في الواقع، إذ أن لا ثقافة أو قيما أو تقاليد صافية وثابتة أصلاً من ناحية، ولا قدرة لأحد في عالم اليوم أن يحدّ من الاختلاط والتنوّع والتعدّد و«تركيب» الهويّات وإغنائها من ناحية ثانية. وثقافة فرنسا وهويّتها هي بهذا المعنى نتاج تاريخها الطويل والغنيّ بالإنجازات والابتكارات (والمثالب)، لكنهما أيضاً نتاج ثقافات المقيمين والمقيمات فيها، مواطنين من أصول مختلفة وأجانب عاملين أو دارسين (أو عالقين) فيها.
مقولات البروبغاندا الحكومية وأصداؤها الإعلامية
تردّدت على مدار الأيام التي شهدت المظاهرات والاحتجاجات والهجمات على مراكز شرطة والاعتداءات على أملاك عامة وخاصة في أرجاء فرنسا، بعد قتل الشرطي للشاب الفرنسي (من أصل جزائري)، مقولات عديدة بالكاد تُخفي عنصريّتها واحتقارها الطبقي للمتظاهرين والمحتجّين (حتى قبل بروز الأخبار عن عمليات تخريب وسرقة) رغم ظاهرها المتذرّع بحكمةٍ أو بحرصٍ على الدولة والمجتمع. وقد روّجت محطات التلفزة وضيوفها للمقولات هذه، بما جعلها وكأنها حقيقة أو جانباً من الحقيقة.
المقولة الأولى كرّرت مصطلحات باتت لازمة يكرّرها اليمين المتطرّف حين يحرّض على من يسمّيهم بالمهاجرين، المسلمين عامة والأفارقة منهم (بما في ذلك «العرب») على نحو خاص، إذ يتّهمهم بتهديد الأمن والتطرّف الديني وعدم الاندماج وغير ذلك من عدّة الكراهية التي لا قوام غيرها في خطابه السياسي.
ورغم أن التقارير الصحافية الجدّية وإفادات البلديّات والمقابلات مع الباحثين المختصّين بالضواحي ومع الأجسام التعليمية والرعائية الاجتماعية العاملة هناك أجمعت على أن الأكثرية الساحقة من الشبّان المنتفضين الغاضبين والمشاغبين فرنسيّون من الجيل الثاني أو الثالث، أي أنهم وُلدوا كما أهلهم في فرنسا وبعضهم لا يحمل غير جنسيّتها ولا يتحدّث غير لغتها، وتوصيفهم «بالمهاجرين» مقصود بالتالي للتشكيك بهويّتهم الفرنسية ومشروعية إقامتهم في فرنسا، فقد استمرّ التعامل معهم على أنهم تجسيد لمخاطر الهجرة والقبول بمختلفين.
ويفيد التذكير هنا أن قسماً كبيراً من هؤلاء هم أحفاد عمّال جزائريين وكاميرونيين وأفارقة آخرين، وفدوا إلى فرنسا (مُكرهين غالباً) بعد الحرب العالمية الثانية ليعملوا بأجور متدنّية في قطاعات البناء ومشاريع الإعمار الكبرى التي احتاجتهم، وبقوا فيها، قبل أن يلحق بهم بعد أعوام أقارب وأهل ليستقرّوا ويتفرنسوا. كما أن قسماً منهم من أصول سنغالية ومغربية جُلِب أجدادهم وآباء أجدادهم إلى فرنسا للمشاركة في حروبها، خاصة الحرب العالمية الأولى، فأقام بعضهم بعد ذلك فيها وتجنّسوا ووُلد أبناؤهم فرنسيين.
ومن هؤلاء جميعهم ومن غيرهم من المهاجرين الأفارقة تحديداً، وُلد تعاقباً من صاروا في العقود الثلاثة الأخيرة أبرز رياضيّي فرنسا ونجوم كرة القدم والسلّة وألعاب القوى فيها، فوفّروا لمنتخباتها لأوّل مرة في تاريخها ألقاباً دولية. ومنهم وُلد أيضاً فنّانون وفنّانات تخطّت شهرتهم عالمياً شهرة أترابهم أو أسلافهم في المهنة «البيض». ومنهم أخيراً من تعدّدت سبل حياته نجاحاً دراسياً ومهنياً أو إخفاقاً أو مراوحة على حال، يكفي أحياناً عند التقدّم لطلبات وظائف ذكر رمز منطقة إقامته لتقليل حظوظه في نيلها.
المقولة الثانية ربطت وجود مراهقين في الشوارع خلال التظاهرات والشغب، وقيام بعضهم بإحراق مؤسسات عامة أو نهبهم لمحتويات متاجر، بسوء تربية أهلهم لهم أو بعدم ضبطهم وإعادتهم إلى المنازل.
ولا يعرف القائلون بذلك أو هم يتناسون عن قصد أن أهلهم بأكثريّتهم يعملون في مهن مضنية، كسائقي شاحنات وباصات ومترو، وعمّال بناء وصيانة، وعاملات تنظيف في المكاتب والمستشفيات، وموظّفات على صناديق المحال التجارية الكبرى. وهم بالتالي يغادرون المنزل من الفجر إلى آخر الليل ليحصّلوا حداً أدنى للأجور لا يقي أولادهم من جموح الرغبات الاستهلاكية التي تفرضها وسائل التواصل الاجتماعي ولا يعينهم على استقرار أو على خصوصية داخل منازل صغيرة أين من ضيقها رحابة الشوارع واحتلالها (بالقوة أحياناً) لساعات أو ليال. أما من لا يعمل من الأهل المذكورين، فالبحث عن عمل أو الاستسلام لبطالة والسعي لتحصيل عون اجتماعي من مؤسسات الدولة والجمعيات المحلية، أو تنظيف منزل وطبخ واهتمام بالرضّع يستنزف وقته بأكمله.
ولا شكّ أن مردّدي هذه المقولة نسوا أو تناسوا أيضاً أن تسيير أمور الحياة اليومية في فرنسا خلال جائحة «كوفيد» لم يكن ليحصل لولا هؤلاء الأهل الذين جرى استثناؤهم من الحجر اليومي لحاجة البلد إلى مهنهم كي تستمر الحياة فيه. وتناسى أو نسي المردّدون كذلك أنهم غالباً ما يبحثون عن مرافقات لأطفالهم وعن عاملات تنظيف لبيوتهم يأتمنونهنّ على نسلهم ومُلكهم، من بين أولئك الأهل إياهم المُلامين على عدم «تربية أبنائهم»!.
المقولة الثالثة هي تلك القائلة بأن التسرّب الدراسي خيار عند كثر من شبّان الضواحي والمدن العمّالية وأنهم لو أرادوا التعلّم فذلك متاح لأن التعليم كما الصحة متوفّران مجاناً للجميع في فرنسا.
تُسقط هذه المقولة، الصحيحة في شقّها الثاني نظريّاً فقط، أن تقارير التعليم الرسمي تُبيّن أن 20 في المئة من أوقات الدراسة المفترضة في المدارس في المناطق «المهمّشة» المعنيّة هنا، لم تعد متاحة بسبب النقص في الجسم التعليمي والضغط على العاملين فيه. وتسقط أن الخريطة الجغرافية للرعاية الصحية غير متوازنة في فرنسا إذ تخلّف الكثير ممّا يسمّى بالـ»صحاري الطبّية». وتسقط كذلك أن تراكم الخيبات والخشية من ألّا تؤدّي الدراسة إلى تحسين شروط الانخراط في سوق العمل نتيجة التجارب المتعدّدة منذ عقود، تقلّص من الاهتمام بالتعليم واستثمار الوقت فيه، خاصة في مرحلة تتضخّم فيها الثقافة السلعية ومعها أحلام الشبّان بالكسب المالي السريع (عبر أي نشاط مشروع أو غير مشروع!) لينتسبوا إلى شروط ما صار يُعدّ «نجاحاً» أو تملّكاَ لمقوّماته المادية.
هل يعني ما تقدّم أن الديمقراطية في فرنسا واحترام حقوق الإنسان ومبادئ العدالة الاجتماعية في خطر؟ ثمة من صار يجيب عن السؤال هذا بالإيجاب. خاصة في ظل تمنّع المسؤولين السياسيين عهداً بعد عهد عن القيام بالإصلاحات الموعودة والمنشودة (أقلّه منذ العام 2005)، وعن الاستفادة من دروس الأحداث التراجيدية لمحاولة تجنّب تكرارها، وإصرارهم على كيل نفس الاتهامات لتبرير فشلهم (ولَو أن اتّهاماتهم هذه المرة لم تتطرّق إلى «الإسلاميين» إذ بان غياب كل مظهر «تديّن» أو راديكالية دينية عن الأحداث كلّها، بما يظهّر حجم المبالغات التي سادت طويلاً حول هذا الموضوع). وخاصة أيضاً في ظل تدهور الأحوال الديمقراطية عالمياً وصعود تيارات اليمين المتطرّف في العديد من الدول الأوروبية (في إيطاليا والسويد وهنغاريا وبولندا) وقبل ذلك في أمريكا والبرازيل وغيرهما.
لكن في المقابل، ثمة من لا يزال يراهن على أن في فرنسا مؤسسات ومنظّمات وقوانين متجذّرة تحمي الديمقراطية، وأن هناك قوى سياسية ونقابية وهيئات حقوقية وثقافية وبحثية وتربوية وصحافة مكتوبة تتمسّك بقيَم التسامح والمساواة والعدالة، وتعادي العنصرية والعنف والتمييز، وأن بين أساتذة التعليم الثانوي والجامعي أكثرية ساحقة ما زالت توفّر مع الأجسام الطلابية مناعةً راهنة وللمستقبل القريب على الأقل، تحول دون سطوة اليمين المتطرّف وأضرابه ودون سيادة خطابات الكراهية ونزعات العداء للتنوّع وللمساواة في المجتمع الفرنسي وفي دولته. وهذا في ذاته مكمن تفاؤل غير ضئيل…
(القدس العربي)