على الرغم مما يوحيه مشهد
تمرد مرتزقة
فاغنر
بالانتهاء، وأنه غدا جزءاً من الماضي، إلّا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك، فقد
أخبرنا ميكافيلي قبل قرون في كتابه "الأمير" بأن المرتزقة أشخاص خطيرون.
وجاءت عودة زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين إلى مسقط رأسه في سان بطرسبرغ، ثم إلى
موسكو، واستعادته لأمواله التي تم الاستحواذ عليها من بيته، والمقدرة بـ110 ملايين
دولار بالإضافة إلى أسلحة شخصية، لتؤكد أن التمرد لم ينته بعد، وأن الاتفاق الذي
أُبرم
بين بوتين وبريغوجين برعاية رئيس بيلاروسيا لوكاشينكو غدا في مهب الريح، وهو
ما أشار إليه الأخير نفسه.
عودة بريغوجين إلى موسكو بعد أن اتهمه
بوتين بالخيانة
العظمى، تشير بشكل واضح وجليّ إلى أن الرجل لديه من القوة والنفوذ والسطوة وسط هرم
الكرملين، ما جرّأه عليها، وعلى تحدي بوتين القوي سابقاً، المتضعضع حالياً، وأجبر
معه الأخير على الانصياع لهذا التحدي، ولزوم الصمت إزاء عودة جريئة، مما عكس مدى
الاصطراع داخل أروقة الحكم الروسية، في التعاطي مع بريغوجين ومرتزقته التي لا يمكن
تفكيكها بجرة قلم وهي المنتشرة والفاعلة داخل
روسيا وخارجها.
الظاهر أن بوتين لن يدفع وحيداً ثمن هذا التمرد، وإنما سيدفعه العالم الذي تساهل على صعود مرتزقة بحجم فاغنر، فباتت إمبراطورية مالية ومليشياوية على امتداد العالم
ليس من السهل على شخصية كبوتين أن تبتلع إهانة بحجم
الإهانة التي سددها بريغوجين يوم قاد انقلاباً من 35 ألف مقاتلاً فقط ليهدد
العاصمة الروسية موسكو، ويصل إلى أقل من 200 كم منها، بعد أن قطع 600 كم مسقطاً
خلالها سبع طائرات، والأسوأ من هذا كله أن ينجح بريغوجين في تضليل القوات العسكرية
الروسية، وتفشل معها القوى الأمنية الروسية في التنبؤ بهذا التمرد، إلّا إذا كان
بعضها متورطا في هذه المؤامرة، ولذا فقد صمتت عليها، أو ساهمت حتى بتضليل الرئيس
نفسه. ولكن كل هذه التفاصيل بحاجة إلى وقت ليتم الكشف عنها، وعن خباياها.
الظاهر أن بوتين لن يدفع وحيداً ثمن هذا التمرد، وإنما
سيدفعه العالم الذي تساهل على صعود مرتزقة بحجم فاغنر، فباتت إمبراطورية مالية
ومليشياوية على امتداد العالم. ففي سوريا لم يُدِن رئيس عصابتها بشار الأسد تمرد
بريغوجين، وطار نائب وزير الخارجية الروسي ليعقد صفقة مع بشار الأسد من أجل طردهم
واعتقال بعض قادتهم، وتقييد حركتهم، وتولي القوات الروسية مهام
المليشيات في حماية
آبار النفط والفوسفات، التي سبق لفاغنر أن وقعت اتفاقيات مع العصابة في دمشق
بالحصول على ربع نسبة المستخرج من الفوسفات والنفط.
أما في السودان فقد نهبت مع مليشيات حميدتي الذهب
هناك، والذي قدر خلال السنوات الماضية بمليارات الدولارات، ونفس الأمر
تمارسه في
أفريقيا الوسطى على صعيد نهب الألماس والذهب.
تداعيات تمرد فاغنر ألقت بظلالها على صورة الرئيس بوتين الدولية، فكان التحدي الأخير الذي أرسله الرئيس أردوغان حين رأى أن من حق أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو، وترافق هذا مع سماح أردوغان بمغادرة قادة مجموعة آزوف الأوكرانية الأراضي التركية، وهم الذين كانوا أسرى لدى القوات الروسية فتوسط في عملية إطلاقهم ضمن صفقة تبادل، فأخلّ ببنود الاتفاق مع الجانب الروسي والذي يحظر عودتهم إلى أوكرانيا
وتقوم مليشيات فاغنر بحماية سطوة الأنظمة العسكرية في
أفريقيا الوسطى وذلك مقابل الحصول على المال، وهو الأمر الذي كان على حساب النفوذ
الغربي وتحديداً الفرنسي في القارة السمراء، الذي تم طرده بطريقة أو بأخرى من دول
تلك المنطقة.
تداعيات تمرد فاغنر ألقت بظلالها على صورة الرئيس
بوتين الدولية، فكان التحدي الأخير الذي أرسله الرئيس أردوغان حين رأى أن من حق
أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو، وترافق هذا مع سماح أردوغان بمغادرة
قادة مجموعة
آزوف الأوكرانية الأراضي التركية، وهم الذين كانوا أسرى لدى القوات الروسية فتوسط
في عملية إطلاقهم ضمن صفقة تبادل، فأخلّ ببنود الاتفاق مع الجانب الروسي والذي
يحظر عودتهم إلى أوكرانيا ومغادرتهم تركيا إلّا بعد انتهاء الحرب الأوكرانية.
هرع الرئيس الأوكراني زيلينسكي لاستلامهم في إسطنبول،
ونقلهم إلى كييف، وكان ذلك تحدياً آخر للرئيس الروسي، الذي رد على ما يبدو على
الفور بإلغاء زيارة كانت مقررة له إلى تركيا.
أساطين الاستبداد أكثر ما يقلقهم صورتهم وهيبتهم، فهي
رصيدهم الأول والأخير في قمع الشعوب، ولذا فإن الهيبة البوتينية قد تصدّعت،
اختصرها أحدهم في موسكو بقوله إنه بعد تمرد فاغنر وتوقيع اتفاق التسامح معه، كانت
الرسالة لكل من هو في روسيا، أن بإمكانك أن تقوم بتمرد على الرئيس ثم تحظى بعفو
رئاسي منه.