فهم الناس للأديان
وتحول الرعوية إلى مفهوم التبعية، وربما الاستعباد والتقديس للأفراد جنح بهذه النخب
التي استسلم لأهوائها الناس كموروث أو جهلا، وبلغ التقديس درجة التأليه العملي لهؤلاء
الناس الذين ينزهون عن نواقص الآدمية وما هي كذلك. الجهاز المعرفي هنا تتضارب أركانه
وتختل ثوابته، عندما يحدثك النص عن العلاقة المباشرة مع الله ويحدثك النخب أنهم
وسطاء.
وعندما يقول
القرآن؛ إن اسمكم المسلمون وأنكم أمة واحدة ثم تسمى الناس بأسماء متعددة وانتماءات
متضاربة ويكونون أمما بتأكيد النخب، استخفافا للناس أو طمعا بدنيا يغلب اليقين
بالحق، هكذا سنجد تركيزا لفاعلية النخب في إبقاء حالة التجهيل، بينما الله جل وعلا
يدعو الناس للعلم والمعرفة واستنهاض قابلية الآدمية وإبداعها. ورغم هذا، تجد إنسانا
يحمل شهادات عليا ومن علماء عصره، يخضع بقدسية إلى إنسان يفترض أنه يعلمه دينه، لكنه
جاهل في العلمين، تجده عالما في علم الأحياء المجهرية، يغسل أو يشرب ما يطرحه حيوان
من بول أو روث، أو ماء آسن قد يكون من دورة مياه يتبارك به وينسى علمه. وإن للعلم
ولاية المعروف، وهي ليست سلطة تستوجب الخضوع وإنما طاعة ما.
الإبراهيمية فكرة لا أساس لها
الديانات مما
نعلم ومما لا نعلم، مصدرها واحد، ما خلا التي نبعت من غريزة التدين عند الناس
البدائيين، أو تلك التي لا يعلم أصلها حقّا مثل الديانات الوثنية الشرقية وهي
بالمئات، منها لها أصل توحيدي ومنها لا أصل لها، وإنما تشعبات مع الزمن تخاطب مخاوف
وغرائز وحاجات الناس والتشبث بدافع الأمل في الذهن، والعجز واقع الحال، فتنحرف عن أصلها
إلى ما يتجاوب ومحاولة التعايش مع العجز والمشاكل، بخلق الوهم ودعمه بالنصوص أو
الحِكَم. فالله عز وجل قدر الأرزاق في الأرض وسن قوانين الحياة، والإنسان مكلف
بالسلالة وعمارة الأرض، فهو مسخّر له مسعاه في أنواع الرزق بعدل الله سواء رزق
مادي أو رزق معنوي. ولا تجتمع كل مجامع الرزق عند بشر وإنما تتوازن بالرضا، هذا
المعيار المستمد من منطق الوجود يحدد مهمتك، وإن تميزك للحق والصواب وإدارة
الغرائز والحاجات وإبداع الأفكار واكتشاف الأشياء من خلال التجارب العلمية، مع فهم
القيم والأخلاق ومعاني الرسالة أيا كانت؛ هو اختبار لمنظومة العقل.
فالديانات
المعروفة، هي
اليهودية؛ وهي برسالة موسى من سلالة إبراهيم، والمسيحية؛ وهي برسالة عيسى، وهو
ليس من صلب آدم وإنما خلقه خاص بروح (أمر) خاص كما خلق آدم من تراب ثم قال له كن
فكان، فلا تعتبر
المسيحية منسوبة لسلالة إبراهيم، وأما الإسلام، فهو من محمد وهو من
سلالة إبراهيم، ولا علاقة لهذا النسب بتمييز ما، فبنو إسرائيل الأوائل كافرهم
ومؤمنهم كما موسى فالسامري وقارون من ذرية إبراهيم، وقبائل العرب المستعربة ومنها
الرسول محمد من ذرية إبراهيم، كما أبو جهل وأبو لهب وسائر كفار العرب من سلالة إبراهيم، وكانوا يدينون بالوثنية وعبادة الأصنام، فهل عبادة الأصنام ديانة إبراهيمية؟
فالمسألة ليست السلالة، وإنما الرسالة وفكرة الرسالة.
هذه الديانات
متعددة الميزات، لكن لها دعوة واحدة ومناهج وأغراض متعددة وليست متصادمة لو دققنا،
لكنها لا تتفق بمراكز مهمة إلا إذا تحولت إلى أحدها. الإسلام كلمة شاملة كتوحيد
ولكل منهاجه، والإبراهيمية فكرة أحادية النظرة لا تتفق والإسلام القابل لخيارات
الإنسان وأهليته، ولا تتفق والمسيحية التي لها نظرة خاصة بالخلاص، ولا اليهودية
التي لها ثقافة خاصة بالمعاملات والعيش. فالإبراهيمية دعوة سفسطائية لا أصل لها، وإنما يراد منها تحويل الكل إلى نسب بشري قد يؤدي إلى الفوضى والإلحاد وتفكك
المجتمعات، بلا شريعة واضحة ومحددات سلوكية وأخلاقية.
اليهودية شريعة
دين، وكانت صالحة لإدارة الحياة في زمنها، لكن ليس فيها اجتهاد وقيدت أحكامها
زمكانيا لكثرة الأسئلة، فكانت أمة "اذبحوا بقرة" وكان ممكنا بهذا أن
يذبحوا أي بقرة، لكن كثرة أسئلتهم جعلتها بقرة محددة. أما المسيحية، فهي دين يتعامل
مع التدين وينفي أن يكون له شريعة. وأما الإسلام فهو دين وشريعة؛ القرآن مثان تفتح عبر العصور، ويملك آلية التجديد (أمة اقرأ)، بيد أن نشوء المؤسسة الدينية وتعاظم
تأثيرها، أفقد الأمة المرونة لتتصلب أمما.
الديانة الإبراهيمية
المزعومة ضد طبيعة البشر الذين ولدوا فئات متضاربة؛ بدين مفصّل لأتباعه كاليهودية،
أو معرّف بدقة كالإسلام، واجتهد الناس في الكينونة والمقدس واتجهوا إلى فلسفة الأقانيم
ودرجة القداسة لإثبات رؤية كل مجتهد كالمسيحية، وما نراه من المسلمين اليوم عجب عجاب
وتسطيح رهيب للمنظومة العقلية الآدمية. فالديانات الثلاث بفروعها ومذاهبها، ليست
واحدة بشرائعها، رغم أن أصلها واحد هو الدعوة إلى التوحيد لله، ما بين شرائع أصولية
وشرائع تتجدد بالفهم عبر الزمن. وهذا أيضا لم يحصل عند المسلمين، فبقي الناس يستحضرون
الماضي ويعيشون أحداثه؛ وبهذا غابوا عن الواقع.
الإبراهيمية نوع
من الجمود بالفكرة وأحادية النظرة، وتريد شيئا واحدا في عالم يتطور ويختلف ويلتئم،
وتتجاهل أن هنالك مئات الأديان الأخرى التي تفوق الديانات الثلاث مجتمعة في العدد،
وتريد حصر الدين بطقوس لا تسمن ولا تغني من جوع وتعمق إيقاف الزمن، وتثبيت رفض
التنوع والاختيار، أي تلغي المنظومة العقلية ليكون التدين لإشباع الغريزة بدل
الدين الذي يكون الثقافة والشخصية، فهي ليست وسيلة تتناسب مع إرادة الله في اختبار
منظومة الإنسان العقلية وامتلاكها أهليتها خياراتها، وإنما استعباده من خلال فكرة
وما تتفرع إليه وأهداف موجودة أو تُستحدث. هكذا دين واستقطاب باطل يحجب الهداية من
أمم تفوق أتباع المناهج الثلاثة لليهودية والمسيحية والإسلام، وهم بمجموعهم لا
يشكلون نصف البشرية عددا كانتماء وواقعا أقل من هذا بكثير.
الحجاب
في كل الأديان
اليهودية كانت
وما زالت تركز على حشمة المرأة وملابسها، جلباب أسود ونقاب وهو ما يرتديه المسلمون
من السلفية، وهو ذاته بلا برقع ملابس المسيحيين لبداية القرن العشرين وظهور نظرية
فرويد في الكبت وتأثيره السلوكي، التي ما زالت فاعلة رغم أن المرأة البريطانية آنذاك
لو عرضت عليها صورة ما يُلبس الآن، لما توانت بوصفه بأبشع الوصف. ولا شك أن ملابس
السيدة مريم العذراء بتماثيلها تؤكد أنها كانت محجبة، وحصر الهيئة بدور العبادة هو
إطاعة لفرويد ونسيان لما أمر به كل دين وفق فهم الناس وسلوكهم.
هنالك حراكان
عمليا، أحدهما يعمل ضد الفطرة البشرية ويشيع الشذوذ ابتدأ بالملابس لكل جنس إلى
العقائد اليوم وتغيير جنس الإنسان والاعتداء على الطفولة والبراءة، وهذا ليس أمرا
غير منطقي، فهو منطقي جدا في تعريف الدولة الحديثة، التي هي بديل الإله بالطاعة
وتتعامل مع الأفراد وليس الأسرة، وتعاظم الليبرالية الجديدة التي تهتم بالمتعة
والخيارات التي تحرر الكبت حسب زعمهم، ووفق ما سمعنا من شاذ التوصيف، وهذا ما لا
يتسع له فقرة في مقال.