مقالات مختارة

الجولان السوري المحتل: رياح أسيرة ومقاومة مستدامة

مشروع خطط زرع التوربينات يشكل خطراً وجودياً على سكان الجولان السوريين ويهدف إلى ترسيخ الاحتلال الاقتصادي للجولان-CC0
مشروع خطط زرع التوربينات يشكل خطراً وجودياً على سكان الجولان السوريين ويهدف إلى ترسيخ الاحتلال الاقتصادي للجولان-CC0
«المرصد» التسمية المختصرة لـ«المركز العربي لحقوق الإنسان في مرتفعات الجولان» يحرص على توصيف أكثر إحاطة بعدد من الجوانب الاقتصادية والبيئية المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي للهضبة، في أعقاب حرب 1967؛ ويفضح، بانتظام، الانتهاكات الصارخة في استغلال ثروات الجولان ومحيطه الطبيعي، التي لا تُسلّط عليها أضواء كافية بقصد التعتيم عليها أوّلاً، ولأنها أساساً بالغة الحساسية والخطورة في آن معاً. وما شهدته وتشهده قرية مسعدة الجولانية من احتجاجات شعبية ضدّ مشروع زرع «مراوح هوائية» في أراض زراعية يملكها سكان الجولان المحتل، في بلدات مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا، تبدو بمثابة الفصل الأحدث من مسار طويل ومفتوح.

وفي الخلفية الأعرض، يشير «المرصد» إلى أنّ الاحتلال الإسرائيلي صادر أكثر من 96٪ من أراضٍ جولانية أخضعها لسيطرته بقوّة الاحتلال، فضلاً عن قرار ضمّ الهضبة سنة 1981؛ كما يرفض إقرار غالبية الملكيات السورية العامة أو الخاصة. أمّا على النحو التفصيلي، فثمة ثلاثة ميادين على الأقلّ لاستغلال ثروات الجولان الطبيعية، هي الرياح والمياه والنفط؛ وأوضحها اليوم هو الميدان الأوّل الذي يتيح للاحتلال تركيب المراوح وإقامة مشاريع طاقة الرياح، وهو الذي يستحثّ التظاهرات والاعتصامات والإضرابات من جانب أبناء الجولان المحتل، ويقابله الاحتلال بالرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع وإغلاق الطرقات.

وحسب «المرصد» فإنّ شركة Energix Renewable Energies Ltd، وهي حكومية تمّ تأسيسها وإطلاقها في البورصة الإسرائيلية، حصلت مطلع العام 2020 على إذن الاحتلال بنصب 25 توربينة رياح على الأراضي الزراعيّة الخاصّة والمجاورة لثلاث من قرى الجولان؛ بارتفاع يمكن أن يصل إلى 220 متر ويجعلها في عداد أطول التوربينات البريّة عالمياً، وبانتشار على مساحة تبلغ حوالي خُمس ما تبقى لأهالي الجولان السوريين من أراض زراعية. ومن جانب أوّل معلَن يسعى المشروع إلى استغلال أوسع للموارد الطبيعية، بما يضمن تضخيماً أشدّ لاعتماد الجولانيين على الاحتلال في مجال الطاقة، ضمن إطار أعرض لترسيخ طراز أسير من اقتصاد الحياة اليومية.

وأمّا من جانب ثانٍ، هو الأخطر والأخبث، فإنّ زرع المراوح يعني في نهاية المطاف مصادرة 4500 دونم من الأراضي الزراعية، والكثير منها يضمّ بساتين فواكه التفاح والكرز الأشهر، وضمنها أيضاً نحو 1000 دونم من حقول الألغام؛ وهذه مساحات سوف تتهوّد فعلياً وتلتحق بالأراضي التي أقام عليها الاحتلال 35 مستوطنة حتى الساعة، يقيم فيها نحو 29,000 مستوطن.

السياسة المباشرة ليست غائبة عن عربدة الاحتلال في سماء الجولان، إذْ شرعت الشركة الإسرائيلية في أعمال تركيب «المراوح الهوائية» بتحريض مباشر من وزير الأمن القومي الإسرائيلي، المتطرف إيتمار بن قفير؛ لم تغبِ عنه نوايا إحراج رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، المنشغل بملفات في شمال الضفة الغربية وقاعات الكنيست أكثر إلحاحاً وتفجراً، والمستعدّ لمرونة أكبر في كسب الوقت وتأجيل متاعب الجولان عبر المقايضة مع الشيخ موفق طريف الزعيم الروحي لطائفة الدروز، و«تجميد» أشغال التركيب إلى ما بعد عيد الأضحى.

مشروع خطط زرع التوربينات، يشكل خطراً وجودياً على سكان الجولان السوريين والسوريات، ويهدف إلى ترسيخ الاحتلال الاقتصادي للجولان

وفي القلب من المناخ السياسي الذي يكتنف هذا الحراك، توفّر من بين ظهراني أهل الجولان من يعزف أنغام الاحتلال، فوقّع صالح طريف، رئيس إحدى شركات التنفيذ، بياناً مع المدير العام لـ Energix؛ يزعم فيه بأنّ المشروع سوف «يساهم كثيراً في خير المجتمع عبر إنشاء أماكن عمل كثيرة، تطوير بنى تحتية (كهرباء، مياه، طرق، وغيرها) دفع مبلغ كبير من الضرائب للمجالس المحلية، تعزيز العلاقة بالتقاليد الدرزية». البيان المضادّ لم يتأخر، وصدر بتوقيع «جماهير الجولان العربي السوري المحتل» فأعرب عن «التصدي لكل من يقف وراء هذا المشروع، غير آبهين بشخصه دفاعاً عن حقنا في أملاكنا وحرصاً منا على مستقبل أطفالنا».

مقاومة مستدامة، إذن، في مقابل انتهاك لثروات الجولان تتجلى اليوم في احتلال الرياح، ولكنها لم تتوقف في أنساق أخرى من الانتهاك والاستثمار والعربدة؛ كما في ملفّ المياه، وفي الجولان تحديداً لأنّ الطبيعة شاءت له أن يتمتع بهطولات أعلى مقارنة مع مناطق احتلال إسرائيلي آخر. هنا، حسب «المرصد» دائماً، أنشأت سلطات الاحتلال 16 مجمّعاً مائياً يستنزف المياه السطحية والجداول وسيولات فصل الشتاء، ويستجمعها في قنوات طبيعية أو حُفرت خصيصاً، بما يبلغ نحو 45 مليون متر مكعب.

ليس هذا فحسب، لأنّ الاحتلال يعتمد سياسات تمييزية، عنصرية تماماً، تفرض على السكان السوريين أسعار مياه أعلى وحصصاً أقلّ ممّا هو مسموح للمستوطنين باستهلاكه. أمّا أنشطة الحفر واستخراج المياه التي تمارسها الشركات الإسرائيلية فقد تكفلت بتجفيف عدد كبير من الينابيع المحلية، وما تبقى منها قليل محدود.

في ملفّ النفط والغاز تقول معطيات «المرصد» إنّ شركة «آفيك» الإسرائيلية، المرتبطة بشركة Genie Energy الأمريكية الضخمة (بين ملاّكها ديك شيني وروبرت مردوخ) حفرت 10 آبار حتى العام 2017، وتعلن عن احتياطيات نفط كبيرة تبلغ «مليارات البراميل» في الجولان؛ غير عابئة بأنّ التنقيب عن النفط لتحقيق مكاسب خاصّة في الأراضي المحتلّة يُعدّ انتهاكاً واضحاً للقانون الدوليّ، وغير مكترثة أيضاً بالعواقب البيئة لعمليات التنقيب وخاصة في احتمالات إحداث زلازل صغيرة وتلويث المياه الجوفية.
الأدهى، ربما، أنّ أنشطة الاحتلال في هذا الميدان تخضع لتعتيم هائل وتجهيل متعمد، بل يحدث أنّ البعض من أهل الجولان أنفسهم لا يعرفون الكثير عنها بالنظر إلى أنّ أشغال الحفر تجري في جنوب الهضبة والمناطق النائية وغير المأهولة.

جدير بالإشارة، هنا، بيان مشترك سبق أن أصدرته 17 منظمة حقوقية، أدان خطط زرع التوربينات، وأكد أنّ «هذا المشروع الخطير يشكل خطراً وجودياً على سكان الجولان السوريين والسوريات، ويهدف إلى ترسيخ الاحتلال الاقتصادي للجولان على نحو مخالف لحقّ الانتفاع المنصوص عليه في المادة 55 من اتفاقيّة لاهاي الرابعة المتعلّقة بقواعد وأعراف الحرب البريّة لعام 1907».

وبين اقتصاد أسير واقع تحت الاحتلال ومقاومة مستدامة سجّلت صفحات مشرّفة، تواصل الهضبة خضوعها لاحتلال هو الأشنع على مدار التاريخ، يستولي على مياه نهرَي اليرموك وبانياس، ويعتمد على الجولان في تأمين 50٪ من احتياجات المياه المعدنية، و41٪ من احتياجات اللحوم، و21٪ من كروم العنب المخصصة لصناعة الخمور، وقرابة 50٪ من احتياجات الفاكهة.

في غضون ذلك كلّه وسواه، يواصل آل الأسد، الأب في الماضي مثل وريثه اليوم، تحويل أرض الجولان إلى بورصة/ مزاد غير علني بين دولة الاحتلال، من جهة أولى؛ والولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، من جهة ثانية؛ فضلاً عن توظيف المرتفعات المحتلة في الخطاب الديماغوجي الموجّه للاستهلاك، الداخلي السوري وكذلك العربي والإقليمي، حول «الصمود» و«التصدّي» و«الممانعة».

وإذا استثنى المرء جولان المقاومة في مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا وعين قينا، فعن أيّ جولان يتحدث النظام السوري، آخر الأمر؟ أهو جولان حوارات واي بلانتيشن وشبردزتاون؟ أم هو جولان «وديعة رابين» الشهيرة، حيث اختلط الوعد المغدور بالجزرة الذاوية الذابلة؟ أم جولان وساطات اللورد ليفي بين الأسد الأب ورئيس وزراء الاحتلال، نتنياهو نفسه، حين اتضحّ أنّ فتح القناة السورية لم يكن إلا تعمية على إغلاق القناة الفلسطينية؟ أم، أخيراً وليس آخراً، جولان إيهود باراك، حين شاء النظام منح الأولوية القصوى إلى ترتيبات توريث بشار، قبل وعلى حساب أيّ ملفّ آخر؟
التعليقات (0)

خبر عاجل