كتاب عربي 21

الوطن وموت الزعيم

محمد هنيد
رغم المحاولات المحمومة لإحياء صورة الزعيم فإن العملية قد انتهت بالفشل بعد أن عصفت ثورات الشعوب بآخر أصنام الزعماء ممثلا في العقيد القذافي.  (صورة أرشيفية)
رغم المحاولات المحمومة لإحياء صورة الزعيم فإن العملية قد انتهت بالفشل بعد أن عصفت ثورات الشعوب بآخر أصنام الزعماء ممثلا في العقيد القذافي. (صورة أرشيفية)
الوطن والوطنية مصطلحات عزيزة على قاموس الاستبداد في بلادنا، فحب الوطن والوطنية هي المقاييس التي يقاس بها ولاء الفرد للمساحة الجغرافية التي يقطنها. لكن المفهوم عرف خلال السنوات الأخيرة سياقات دفعت كثيرين إلى إعادة قراءته وتأويله على ضوء المستجدات التي ضربت المنطقة في العمق.

صارت الوطنية شهادة يوزعها النظام وأدواته الإعلامية على من يشاؤون، بل إن الولاء للوطن صار شعار المرحلة عند أنظمة كثيرة وجدت في المصطلح ضالتها وظفرت من خلاله بكنز ثمين. لكن من جهة أخرى تُطرح أسئلة عديدة تستوجب التحقيق :

ما هو معيار الوطنية وكيف تقاس؟ ما هو الوطن وهل هو حدود جغرافية فقط؟ هل يكفي جواز السفر علامة على الوطنية والانتماء؟ ولماذا يهرب الشباب عبر قوارب الموت فرارا من الوطن؟ هل وطن الحاكم هو وطن المحكوم؟

الوطنية في خطاب الاستبداد

خارطة البلاد العربية الحالية هي نتاج لتقسيمات استعمارية برزت خلال منتصف القرن الماضي في المشرق والمغرب ولم يكن للأنظمة الحاكمة ولا للشعوب نفسها أي دور في رسم حدودها. بل إن هذه التقسيمات قد قامت على فصل مكونات ديمغرافية واحدة في الشرق كما هو الحال في شمال أفريقيا خدمة لمصالح استعمارية محددة.

منحت الدول الكبرى بعد ذلك اعترافها بهذه البلدان باعتبارها بلدانا مستقلة أي منفصلة عن بعضها البعض، لها عُملتها ونشيدها الوطني وجواز السفر الخاص بها، وصار ساكن تلك البقعة الجغرافية منتسبا إداريا وقانونيا للرقعة التي حددها المحتل القديم.

ليس الوطن مكانا جغرافيا فقط بل هو مجموعة من الشروط التي تحقق إنسانية الإنسان من حرية وكرامة وعمل وعدالة حقيقية قادرة على إيقاف نزيف الهروب من الأوطان.
نصّبت قوى الاحتلال وكلاء محليين حكاما على كل قطعة اقتطعتها وركّزت ممالك وأنظمة عسكرية أو مدنية انقلابية موالية لها للحفاظ على مصالحها وضمان نهب ثرواتها عبر الوكيل المحلي. ضمنت القوى الاستعمارية بذلك سيطرتها على مستعمراتها القديمة وأوكلت للأنظمة الحارسة مهمّة أساسية تتمثل في ترسيخ الحدود التي رسمتها هي.

لكن الأخطر في مسار تطور مفهوم الوطن والوطنية هو تحول الوطنية أو الولاء للوطن في خطاب الاستبداد من الولاء للوطن الجغرافي إلى الولاء للنظام الحارس. وهو المنعرج الذي نجح عبره الاستبداد في الاستحواذ على مقولة الانتماء والهوية التي سيربطها بعد ذلك بصورة الزعيم الخالد والقائد الملهم والمجاهد الأكبر.

الزعيم هو الوطن

رويدا رويدا تطوّر مفهوم الوطنية بعد أن توصّل النظام الاستبدادي العربي إلى صهر مقولة الوطن في صورة الزعيم بما هو حامي الوطني وباني الوطن ومنقذ الوطن وأب الوطن. بل وصل الأمر أحيانا كثيرة إلى بناء تركيب إضافي يذيب الوطن في صورة الزعيم فهذه مصر عبد الناصر و جزائر بومدين وليبيا القذافي وسوريا الأسد وعراق صدام ويمن صالح وسودان البشير وتونس بورقيبة.

نهاية الزعيم تفتح طريق الإنسان وتؤنسن الحاكم فتخرج به عن مرتبة التأليه التي يسعى إليها دائما. إنها مرحلة مركزية في مسار بناء وعي سياسي عربي جديد يؤسس لعلاقة جديدة بين السلطة والشعب لأن القدرة على مساءلة الحاكم بنزع القداسة عنه يشكل مدخلا أساسيا لكل بناء سياسي واجتماعي سويّ.
أمام التلفاز كنا صغارا نجلس في انتظار شريط الأنباء، وكان ما قبل النشرة مخصصا لخطابات "المجاهد الأكبر" الحبيب بورقيبة الذي يروي لنا في خطاباته المملة البائسة مغامراته ككل الطغاة العرب. كان من بين ما ذكر أنه حين يزور الدول الأخرى معرّفا بتونس يجد أن الناس لا تعرف البلد لكنهم يعرفونه هو فقط. هكذا صار أول مستبدّي تونس منظرا لمقولة الزعيم هو الوطن بل هو فوق الوطن الذي لم يكن له وجود قبل ولادة الزعيم، نشأ معه وكبر معه واستقل معه.

صارت الوطنية تفيد الولاء للفرد الحاكم، وبناء عليه تكون معارضة الحاكم ونظام حكمه خيانة للوطن يحاكم صاحبها بتهمة التآمر على أمن الوطن. لكن على الجانب الآخر، كان الفساد الذي هو الوجه الآخر للاستبداد ينخر جسد الوطن بشكل حوّله إلى فضاء قبيح يصعب العيش فيه، وهو ما عبّر عنه الشاعر ببلاغة قائلا "الوطن للأغنياء والوطنية للفقراء ".

موت الزعيم

رغم المحاولات المحمومة لإحياء صورة الزعيم، فإن العملية قد انتهت بالفشل بعد أن عصفت ثورات الشعوب بآخر أصنام الزعماء ممثلا في العقيد القذافي. يعدّ هذا الإنجاز واحدا من أهمّ مكاسب ثورات الربيع التي أطاحت بأحلام تجديد صنم الزعيم في مخيال الشعوب.

نهاية الزعيم تفتح طريق الإنسان وتؤنسن الحاكم فتخرج به عن مرتبة التأليه التي يسعى إليها دائما. إنها مرحلة مركزية في مسار بناء وعي سياسي عربي جديد يؤسس لعلاقة جديدة بين السلطة والشعب، لأن القدرة على مساءلة الحاكم بنزع القداسة عنه يشكل مدخلا أساسيا لكل بناء سياسي واجتماعي سويّ.

صحيح أن روافد كثيرة لا تزال تعمل على منع ذلك، مثل توظيف الرافد الديني في تقديس الحاكم أو ولي الأمر، وهو الرافد الذي عرف خلال العقد الأخير انتكاسة كبيرة بعد انحياز المؤسسات الدينية إلى جانب الاستبداد. هذه المسارات الجديدة هي وحدها القادرة على انتزاع الأوطان من قبضة المحتل والوكيل معا لنتجاوز بذلك الحدود التي رسمها الاستعمار ونؤسس لوطن جديد يكون وطن الإنسان لا وطن السلطة الحاكمة.

ليس الوطن مكانا جغرافيا فقط، بل هو مجموعة من الشروط التي تحقق إنسانية الإنسان من حرية وكرامة وعمل وعدالة حقيقية قادرة على إيقاف نزيف الهروب من الأوطان.
التعليقات (1)
كاظم صابر
السبت، 24-06-2023 07:40 م
تعجبني تلك المقالات ، و من ضمنها مقال الأستاذ محمد هذا ، التي يقوم كاتبوها بالتحليق إلى أفقٍ سامِقٍ فيكون الواقِعُ مَوْضِعَاً للتفكيرٍ و ليس مَصْدَرَاً للتفكير لأن من يستمد حُكْمه على الأمور من واقع بائس يكون كمن ينتشل ماءً من بئرٍ آسنٍ لا انتفاع منه . كانت قبائل أعراب الجاهلية قبل الإسلام تعيش في بقعة جغرافية فسيحة واحدة و كان لدى أفراد القبيلة ولاءٌ للقبيلة فحسب و كان هذا الولاء نوعاً من التعصب الأعمى الذي لا عقل فيه ، و هذان بيتا شعر يدللان على ذلك أولهما لدريد بن الصمَة " ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّة إِنْ غَوَتْ** غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّة أَرْشُدِ" و ثانيهما لعمرو بن كلثوم " أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا ** فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا " و هو من ضمن معلَقة عمرو التي تنضح بالعداوة نحو القبائل الأخرى و الاستعلاء عليها. جاء الإسلام دين الرحمة ليقول سبحانه و تعالى للعرب و للعجم "أي غير العرب" :(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). لقد حلَت رابطة المبدأ محلَ الرابطة القبلية و الرابطة الوطنية و الرابطة القومية دُفْعةً واحدةً. أتانا الاستعمار الغريب المُعادي لأمتنا ليخرجنا من ديننا و ليسيطر على بلادنا و لينهب ثروات أمتنا و حتى يتيسر له ذلك اتبع سياسة ((فَرِّق تَسُدْ )) . قام بالتركيز على التفرقة بين قوميات المسلمين الكبرى "عرب ، أتراك ، أكراد" ليجعل بينها نزاعات ، ثم انتقل إلى تجزئة المجزَأ فأقام لقوم العرب دويلات وطنية عددها 22 و قام بترسيخ أن هذا عراقي و هذا تونسي و هذا سوري و هذا سوداني ...الخ . ثم إنه في الوطن الصغير الواحد بعث نعرة قبيلة كذا و قبيلة كذا "كما شاهدنا في ليبيا مثلاً" . أنشأ الاستعمار القديم هذا الترتيب الاستعماري الجائر و وافق الاستعمار الجديد على الترتيب نفسه من دون إبداع سوى ما يتعلق بمزيد تجزئة "كما حصل في السودان مثلاً" . أربأ بأيَ مثقف من أمتنا أن يرضى بعدم الالتفاف حول حبل الله المتين فيكون تابعاً للاستعمار الخبيث و لأدواته من الطراطير النواطير " البعض يسميهم كلاب حراسة و أنا أتحفظ على هذه التسمية" . شعاري منذ أن كنت شاباً يافعاً بيت الشعر التالي " اِجْعَل بِرَبِّكَ كُلَّ عِزِّكَ يَسْتَقِرُّ وَيَثْبُتُ ** فَإِذَا اعْتَزَزْتَ بِمَنْ يَمُوتُ فَإِنَّ عِزَّكَ مَيِّتُ " . ربَي هو الله الحيَ القيَوم و ليست بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا أو روسيا .