هل البرلمان
اللبناني الحالي المنتخب منذ نحو عام مؤهّل بتركيبته وبموازين القوى التي تكبس عليه من داخله ومن خارجه بأن ينتخب رئيساً للجمهوريّة وأن يملأ الفراغ في السلطة التنفيذية إن على مستوى رئاستي الدولة والحكومة أو على مستوى الحكومة؟ أم أنّ الأمور في بلد كلبنان، وفي الوضع الحاليّ للبنان، لا تُحْسَبُ هكذا؟
في الديمقراطيّات البرلمانية عندما يتعذر ملء السلطة التنفيذية من فيض الرجحان الأكثري ضمن السلطة التشريعية سواء لعدم توفر هذه الأكثرية أو لتضعضعها، تُعاد الانتخابات التشريعيّة نفسها.
وفي الديمقراطيات التي تتبع نظاماً مركّباً، أو نصف رئاسي، تُلحَظ الحالات التي تؤدي فيها «كربجة» المؤسسات بعضها ببعض إلى تجويز إعادة الاحتكام للهيئة الناخبة.
الديمقراطيات التمثيلية تُبنى من الأساس ليس على توفّر أكثرية برلمانية واضحة فيها كل الوقت، بل على احتمال عدم توفّر هكذا أكثرية، أو تأرجحها، أو تصدّعها، أو اصطدامها برئاسة للسلطة التنفيذية لها مصدر انتخابي شعبي هي الأخرى، بحيث يكون الحل العملي الوحيد المتروك في كل مرة تشلّ المؤسسات فيها بعضها هو العودة لصناديق الاقتراع.
أما في لبنان فالاحتكام للناخبين بما خصّ المؤسسات الدستورية يقتصر على الانتخابات النيابية، وبالكاد. لا انتخابات رئاسية تتمّ الاقتراع العام، ولا استفتاءات. والنظام الدستوري الذي زاده اتفاق الطائف تهجيناً على تهجين، وزادته وطأة الوصاية السورية ثم الغلبة الفئوية الداخلية من بعد التهجين تطويعاً وتخلّعاً وتذريراً، لا يتيح أي منفذ للرجوع مجدّداً إلى الإرادة الشعبية في حال استطال الشغور في الرئاسة عاماً أو بضعة أعوام.
وبالممارسة، يتحوّل التعطيل والفراغ على رأس المؤسسات إلى القاعدة في هذا النظام، ويركن امتلاء المؤسسات في خانة الاستثناء وغرائب الأمور. ويزيّن لهذا الأمر بأن الأمور لا تُحلّ إلا بالتوافق، لا برجحان كفّة أكثرية على أقلية.
في الوقت نفسه، من تراه يكثر من رفع راية التوافق يجاهر بلا التباس بأن التوافق المبحوث عنه والعتيد هو التوافق الذي يستجيب ضمنياً أو مجاهرة إلى قانون السيف، ومع استبعاد التوافق حول «لمن السيف» اليوم أو غداً. بل أن صاحب السيف والشوكة يذكر على الدوام بأن سيفه غير مطروح للتداول. بل أن التداول مشروط به. هو إذن التوافق في إطار تعزيز الغلبة. التوافق كمعادلة تعد بتمكين شوكة المتغلب في مقابل تليين شكل الغلبة والترويج لمقبوليتها.
والحال أن «
حزب الله» لم يخترع بدعة «الديمقراطية التوافقية» هذه. بل أخذها من أدبيات تبدأ بميشال شيحا ولا تنتهي بأنطون مسرّة. لقد استوطن الحزب الثيوقراطي خطاب الإدارة الديمقراطية للتعددية اللبنانية هذا، وزاد عليه: ان هذه الإدارة الديمقراطية للتعددية غير ممكنة من دون التغلّب، ومن دون أن يكون التغلّب نفسه زاهداً في السلطة، وفي الدنيا. زاهداً في السلطة، ومواكباً لها، متحكّماً بمداخلها ومخارجها، بنفس القدر.
ما يجري نسفه هنا قبل كل شيء هو فكرة الآجال الدستورية. فكرة التسلّم والتسليم بين رئيس ومن يخلفه. صحيح أن الرئاسة لا تدوم لشخص في لبنان مدى الحياة، بخلاف النموذج الشائع للجمهوريات العربية، لكنه لم يعد يسلّم القصر إلا للأشباح. إميل لحود سلّم قصر بعبدا إلى الشغور. كذلك فعل ميشال سليمان، إنما رطّب من جفاف الانتظار بلا رئيس عامين ونصف بتسهيل قيام حكومة جديدة قبل انسدال ليل الفراغ. ميشال
عون سلّم بدوره القصر للا أحد، ومن دون حكومة ذات صلاحيات إجرائية اعتيادية هذه المرة، بل حكومة مستقيلة بفعل حصول الانتخابات النيابية قبل عام. لم يجر التمكن من إحلال واحدة بعدها في الشهور الأخيرة لولاية عون.
اليوم الفراغ أتمّ من سابقيه، لأنه فراغ رئاسي – حكومي في آن. ليس هناك من سلطة تنفيذية عاملة في لبنان من حيث هي مؤسسات دستورية. ويستتبع ذلك أن البرلمان الفاشل في انتخاب رئيس مناط به انجاز هذا الفعل قبل أي شيء آخر، وهو ما يتخلّف عنه، زد على أنه لم يعرف التاريخ برلماناً تُختَزل أموره بهذا الشكل إلى توجيهات رئيسه المستدام منذ مرحلة ما قبل شيوع الإنترنت وإلى مرحلة الذكاء الاصطناعي. إنه مجلس رئيس النواب.
والفراغ يعني في المقابل أن هذه التناقضات اللبنانية قادرة على تدبّر شؤونها دون انفلات الأوضاع، ولو بفاتورة عالية الكلفة، إنما من دون مؤسسات دستورية ممتلئة وعاملة.
وهذا بحدّ ذاته يُفترض أن يكون محيّراً ومدهشاً. فهذا يناقض فلسفة توماس هوبز التي كانت ترى أن الوحش الاصطناعي، أو لنقل الدولة، إذا زالت أو غاب تفويض الناس لها، تنفجر التناقضات ليس داخل المجتمع، لأنه لا مجتمع إلا في حال وجود الدولة، وانما بين الناس المتروكين الى حال التوحش، فيسود الاحتراب بين النفر وجاره، ويعمّ الذعر من موتة الغيلة.
وما هكذا الأمور في لبنان. الانهيار الاقتصادي في حاله القصوى، وكذلك التحلل الاجتماعي، والدولة حاضرة فيه بما قلّ ودلّ، بالحدود الدنيا، وإن كانت لا تزال تحافظ على جهازها الدواويني الضخم، كما لو أنها أرشيف أو تذكار لهذا الجهاز. لكن الاحتراب بين الناس يكاد يقتصر على مواقع التواصل وبعض البرامج المتلفزة. الناس عن انهيار أحوالها تكاد تكون لاهية. الاغتيالات لا تزال تمدّ الأذهان بمادة كابوسية، لكن الأوضاع حالياً في الشارع غير متناسبة مع حجم المأزق في المؤسسات. الشارع سابَقَ المؤسسات الى التعطّل.
فهل إنه مجتمع له ما يقيم أوده ولو في ظل ضمور الدولة؟ إذا كانت هي الحال بالفعل أمكن الاستنتاج إذاً أن ثمة عقدا اجتماعيا مضمرا قائما بين الناس، لكنهم يجدون صعوبة في تظهيره، ومأسسته، وحمله على أكتافهم. بالتالي الانقسام الأهلي بين الناس قليل الحدّة في واقع الحال.
إلا أنّ استنتاجاً كهذا سيكون أكثر من فاقع، وأكثر من ساذج، ويكفي تطور مأساوي واحد لتفتيته. الأسلم، ربما، القول بأن الدولة هائمة على وجهها من ناحية، ومجموع المجتمعات اللبنانية هائم على وجهه من الناحية الثانية! المفاتيح ضائعة. وبين هائمية الدولة وبين هائمية المجتمع، يقف المتغلّب معانداً ومطمئناً الى أن القوة لا يمكن أن تُكسَر إلا باللاقوة، وأن التناقضات بين من يبادلهم أو يبادلونه الخصومة أو العداوة أكبر من أن تصيغ لفيفاً متماسكاً في مواجهته، وبما أن الصراع هذا يُحسَب بالعقود لا بالسنين، فله الغلبة طالما اجتمعت عنده العصبية والعقيدة ونقصت هذه وتلك عند سواه.
والحال أن ميزان القوى غير متوازن بين قوته وهالته وبين ما للآخرين. لكن نموذجه في «التوافق بحدّ الغلبة» انوجد في طريق مسدود منذ استقالة حكومة سعد الحريري تحت ضغط الشارع في خريف العام 2019.
فالأمور اذاً لا تُقاس بما ظهر في جلسة البرلمان الأخيرة، لأن البلد يعيش – منذ أربع سنوات – متأتيات وتداعيات معادلة مزدوجة: لم يعد «التوافق بحدّ الغلبة» ميسّر الاشتغال والتدوير، من دون أن تكون الغلبة نفسها موضع مراجعة، أو تشذيب، من أي نوع.
التهديف الجديّ على هذه الغلبة غير متاح، إلا لمن لا يعرف التفريق بين ما للدفاع وما للهجوم.
هي غلبة مديدة من دون أن تمتلك القدرة من الأساس على تحويل رصيد سيطرتها إلى واقع هيمني مستقرّة الهيمنة فيه، وشامل. ثم تضاف الى ذلك خسارة القدرة، في السنوات الأخيرة، على رعاية «التوافق من موقع المتغلّب».
البلد إذاً يكابد حالة لا أفق فيها لرفع وطأة التغلب الفئوي، ولا التحلل من الخيار الذي ينخرط فيه هذا التغلّب على صعيد منطقة الشرق الأوسط ككل. ولا أفق في المقابل لإعادة تكرار «التوافق تحت شروط المتغلّب».
يحصل ذلك بالتداخل مع انزياح مركز التناقضات بين الملل والنحل في لبنان. في القرن التاسع عشر، كانت التناقضات مستعرة في «لبنان – الجبل» بين الموارنة والدروز، وفي القرن العشرين بين الموارنة والمسلمين السنّة. وفي العقدين الأخيرين انقسم المسيحيون بين أنصار الشيعة وبين أنصار السنّة على الصعيد السياسيّ. كل رهط يفاخر بمكارم الفريق الذي يواليه هو من المسلمين بإزاء ما يعطيه الفريق الإسلامي الآخر للمسيحيين المنافسين له، ثم أسدلت الستارة على كل هذا. هل دخلنا في زمن الاستقطاب المسيحي – الشيعي المزمن اذاً، وقد أتاحته الكبوة السياسية للتيار الأرجحي بين المسلمين السنّة؟ هناك شيء من هذا القبيل.
(
القدس العربي)