* تبدو
انتخابات تركيا فرصة لدراسة توجهات
العالم العربي
تجاه
الديمقراطية: اهتمام غير مسبوق وتغطية مجهرية دقيقة وأعصاب مشدودة، وكأن
الانتخابات عندنا كما هي عندهم. لكن الفرصة قد تكون زائفة بالكامل، وربما تكون
الانتخابات التركية تعقيداً إضافيا أمام محاولة فهم التوجهات العربية تجاه هذا
الشيء المدعو بالديمقراطية. بالنسبة لأنصار رجب
أردوغان في العالم العربي، أيهما كان الأغلب في الأسبوع الماضي: الإعجاب
بالديمقراطية التركية، أم الإعجاب بنتيجة انتخاباتها؟ الأمران مختلفان جدا، تماما
كما أن المزج بينهما سهلٌ ومُغرٍ للغاية. ولا يحتاج الأمر سوء ظنٍّ شديد كي يتساءل المرء:
كم مِن مدائح الديمقراطية في الصحافة العربية هذه الأيام مقترنٌ -عمليا ودون إعلان-
بفوز مرشّح بعينه دونَ آخر؟
التأييد العلني للديمقراطية هو من مستلزمات الأناقة الفكرية المعاصرة، ولذلك ترى حتى أولئك المستبدين في دوائرهم الشخصية المباشرة مستعدين للدفاع الملحمي عن الفكرة الديمقراطية في السجالات الفكرية، فالتولّه اللفظي بالأفكار لا يستلزم وِصالاً فعليا لها ولا حتى إيمانا صادقا بها
* ماذا لو أن كليتشدار أوغلو فاز
بالانتخابات، وشرع بعد فوزه بطرد اللاجئين كما وعد عمليا بين دورتيّ الانتخابات،
وانخرط بمجمل ما يجعل كثيرين في العالم العربي يتحفّزون ضده؟ كم سيبقى من إعجاب
المعجبين لدينا بروعة النظام الديمقراطي، وكم سيبقى من تفجّعهم المستمر على غياب
هذه الآلية في بلادنا، ليس الأمر فضولا شخصيا حول الموقف الحقيقي لهذا المثقف أو
ذاك الباحث أو هذه الإعلامية ممن يكتبون اليوم مدائح بليغة في روعة الأعراس
الانتخابية، وإنما تساؤلا حول خارطة المزاج العربي الحقيقية تجاه الحريات
السياسية.
* لا يمرّ عام علينا دون أن تُجري
مؤسسة صحفية أو مركز بحثي (عدا عن أجهزة المخابرات والأمن) مسحا ميدانيا لاستطلاع
مواقف المجتمعات العربية تجاه جملة من القضايا، واحدةٌ من أهمها تخص النظام
السياسي وما إن كان المُستطلَعُ يؤيد الديمقراطية أم لا. ومن بين كل أسباب الريبة
التي يستحضرها المرء في دقة نتائج هذه الاستطلاعات، فإن سؤال الديمقراطية على جه
الخصوص يستحق اشتباها خاصا. لا ينبع هذا الشك من صدقية أصحاب الاستطلاعات، وإنما
من صعوبة سبر الموقف الفعلي للأفراد أمام قضايا كهذه. مَن يعلن رفضه الصريح
للديمقراطية هو صادقٌ بأغلب الظن، لكن العكس مختلف جدا. إن التأييد العلني
للديمقراطية هو من مستلزمات الأناقة الفكرية المعاصرة، ولذلك ترى حتى أولئك المستبدين
في دوائرهم الشخصية المباشرة مستعدين للدفاع الملحمي عن الفكرة الديمقراطية في
السجالات الفكرية، فالتولّه اللفظي بالأفكار لا يستلزم وِصالاً فعليا لها ولا حتى
إيمانا صادقا بها.
ماذا يمكن أن يُقرأ عربيا في انتخابات تركيا الأخيرة؟ أكثر من شيء بالتأكيد، لكن إعادة تدوير مدائح الديمقراطية ليس قراءة من الأساس، بل شيئا أقرب للترنيمة التي يُسلّي بها المرء نفسه. إن الداعي للتقدير في التجربة التركية ليس الاقتراع ونزاهته، بل ما يجعل اقتراعا كهذا ممكنا أصلا وقادراً على الحياة. وجذر المسألة لا يعود بالضرورة للحرية و"إرادات الشعوب"، بل ربما للنقيض تماما
* في سياق هذا الالتباس، تسمع وتقرأ تمجيدا كثيرا لذاك
السراب المخاتل المدعوّ بالشعب؛ الشعب الذي "قال كلمته"، والشعب الذي
"فرض إرادته"، والشعب الذي صار حتى اسماً لحزبٍ راسبٍ في المنافسة
التركية. وبعيداً عن كون "الشعب" في أغلب الانتخابات المعاصرة نصفَ
الشعب لا أكثر، فإن هذا النصف المنتصر متوزّع على توجهات شتى، وقد يجمع الإسلاميَّ
بالقوميّ، والعنصريّ بالأممي. والأمر لا يقف هنا طبعا، فحتى تكتمل الطرافة شاعَ
حديث كثير في السنوات الأخيرة عن "الشعبوية" وخطورتها. فجأة، تنبّه
المتغزّلون في حكمة الجماهير وإرادة الجماهير وبوصلة الجماهير؛ إلى أن هذه
الجماهير يَسهُل التلاعب فيها وجرّها بشيء من البلاغة ورأس المال الإعلامي. وعلى
مستوىً عملي، باتت "الشعبوية" مفردةً للدعاية السياسية في الأنظمة
الديمقراطية لهجاء من يبرع بشدّ الجماهير لخطّه أكثر من سواه، وكأن هذا ليس أساس
اللعبة أصلا.
* ماذا يمكن أن يُقرأ عربيا في انتخابات تركيا الأخيرة؟
أكثر من شيء بالتأكيد، لكن إعادة تدوير مدائح الديمقراطية ليست قراءة من الأساس، بل
شيئا أقرب للترنيمة التي يُسلّي بها المرء نفسه. إن الداعي للتقدير في التجربة
التركية ليس الاقتراع ونزاهته، بل ما يجعل اقتراعا كهذا ممكنا أصلا وقادراً على
الحياة. وجذر المسألة لا يعود بالضرورة للحرية و"إرادات الشعوب"، بل
ربما للنقيض تماما؛ للحظةٍ تاريخية فُرض فيها إطار اللعبة السياسية، ورُسِّخ
بالقوة وعسفها. لحظةٌ كهذه لا تُخلق بالانتخابات، بل تُفرَض بالتغلب والإكراه
لتَبني منظومةً لا تَقبل من لا يَقبل بها. هذه اللحظة الفارقة تحديدا، وحاجتنا
العربية الماسّة لها، هي عنوانٌ كبيرٌ -وخفيّ- في المشهد التركي الأخير.