بات واضحا اليوم، بعد التجربة الانتخابية التركية الأخيرة، أن
الغرب إنما يهدف من خلال ما يُسمِّيه “المشروع الديمقراطي” إلى محاولة فرض نمط معين من الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية على شعوب المعمورة، وإلا فسيكون مصير دولها التهديد أو التفتيت أو الانقراض. كلما عشنا تجربة حملت عنوان
الديمقراطية الغربية..
كُنَّا أمام مثال جديد لمحاولة فرض هذا المنطق. وقليلة هي الدول التي خرجت سالمة وبالكاد من هذه اللعبة، ومن بينها
تركيا. بعض دولنا بقيت لسنوات تدور في مراحل الانتقال الديمقراطي التي لا تنتهي مادام هناك شك بأن هذا الانتقال سيوصل إلى السلطة نموذجا غير غربي إلى الحكم، أو يحمل مُحتوى غير غربي معه، وبعضها الآخر فُرِض عليه التغييرُ بالقوة، ودفع ثمنا باهظا في الأرواح لمجرد أن أَوصَلت الديمقراطية بأدواتها نخبة غير تغريبية إلى الحكم. وتجارب أخرى مازالت مُحاصَرة أو هي تحت المجهر إلى حين تبدو إشاراتٌ تضمن أنها ستتحول نحو الغرب، وإلا ستبقى محل شك وسؤال ومراقبة مستمرة إلى أن تبرز مؤشراتٌ دالة على وجهتها الموالية أو يتم صناعة نخبة تضمن تحوُّلها نحو هذه الوجهة.
ما تم في تركيا هو الدليل القاطع على هذه الاستراتيجية المعتمَدة من قبل القوى الغربية. والنتيجة التي حققها الشعب التركي في الانتخابات الأخيرة إنما هي الدليل القاطع أيضا على إمكانية إفشال هذا المخطط بوسائله، وإمكانية تفكيك ألغامه المختلفة من دون خسائر تُذكر. وليس من السَّهل القيام بذلك، كما أنه ليس من السهل المحافظة على ذلك، ولعلها المهمة الصعبة القادمة للقيادة التركية التي أعيد انتخابها. لقد نجت بالكاد من فخ تسليم الدولة للمشروع الغربي… ويرجع الفضل في ذلك بالدرجة الأولى إلى وعي الشعب التركي الذي صوَّت لصالح المشروع الحضاري للأمة، وإلى جزء كبير من المعارضة التركية التي كانت أيضا في مستوى التحدي وبيّنت قدرتها على التمييز بين قناعتها الوطنية وهي تتطلع إلى السلطة وأن تتحول إلى أداة في يد الأجنبي. وبرغم وجود فصائل بداخلها لم تكن لتتردد في التعامل مع الأمريكيين خاصة لأجل الوصول إلى السلطة وخدمة المشروع الغربي، إلا أن غالبية المعارضة كانت تُدرك مخاطر مثل هذه اللعبة على انقسام المجتمع والالتحاق بتجارب الدول العربية الفاشلة التي لم تتردّد في التضحية بأعداد كبيرة من مواطنيها مقابل البقاء في السلطة من دون سند شعبي حقيقي.
وهذا يعني أن الخمس سنوات القادمة ستكون حاسمة في خروج تركيا من دائرة النفوذ الغربي تماما، بعد أن فشلت تجربة الإطاحة بحكم
أردوغان بالقوة في 2016، ثم فشلت التجربة الثانية هذه للإطاحة به عبر الانتخابات الأخيرة. وبالنظر إلى التحولات الهيكلية في بنية النظام الدولي الحالية الناتجة عن التحالف الصيني ـ الروسي وتحوّل الشرق مرة أخرى تدريجيا إلى كتلة حضارية مقابل الغرب، فإن الفرصة ستُصبِح مواتية لتركيا لتعزز بلورة مشروعها الحضاري، وتتمكن من لعب دور النموذج القائد لمجموع الدول الإسلامية في كيفية الخروج من دائرة الهيمنة الغربية بأقل التكاليف، وبالوسائل التي تسعى هذه الهيمنة للبقاء بها، أي تلك الأدوات غير المحايدة للديمقراطية التي إن لم توصل التغريبيين إلى الحكم ينبغي الانقلاب عليها…
لذلك، إذا كانت من تحية ينبغي توجيهُها للتجربة التركية الحالية، إنما ينبغي توجيهها لهذا الشعب، الذي رغم الضغوط الاقتصادية والإعلامية والنفسية التي مورست عليه طيلة العشرية السابقة، أثبت أنه مُصِرٌّ على خوض اللعبة بقواعدها المفروضة والانتصار فيها، وقد انتصر، وهذه المرة عليه أن يعمل مع قيادته لكي لا يُخاطِر مرة أخرى بمصيره، ويترك مصير بلد كامل مُعَلّقا بنسبة قليلة من الأصوات، كان يمكن أن تُغيِّر مجرى هذا البلد لقرن آخر من التغريب ستطال آثارُه بقية العالم الإسلامي وتُعطِّل مشروعه القادم للعودة إلى الذات. شكرا للشعب التركي الذي أدرك عمق اللعبة، وعرف أدواتها، ولعبها باحترافية، وربح شوطا إستراتيجيًّا هذه المرة.
(الشروق الجزائرية)