قضايا وآراء

الإنسان في القرآن.. الكفر مقتٌ ونفورٌ (17)

أحمد أبو رتيمة
الأناضول
الأناضول
يظنُّ الذين يكذِّبون بالدِّين أنَّ المفاهيم الدينيَّة تنتمي إلى الزمانِ القديم وأنَّها لم تعد ملائمةً للعصرِ الحديثِ، فالقرآنُ يفردُ مساحةً واسعةً للحديث عن الكفرِ والإيمانِ، بينما تسود في العالم المعاصر قيم المدنيَّة والتحضُّرِ الإنسانيِّ، وهو ما يقود إلى الاستنتاجِ بتراجع فاعليَّة الدِّين وانزوائه.

هذا الخلطُ لا يبوء بمسؤوليَّته المكذِّبون بالدِّينِ وحدهم، بل يتحمَّل نمط من التفسير الدينيِّ كفلاً من المسؤوليَّةِ أيضاً لأنَّه لم يحرِّر المعاني القرآنيَّة بدقَّةٍ ويفجِّر أعماقها النفسيَّة، وهو ما قاد إلى تحوُّل الدين إلى أيديولوجيا مغلقةٍ وتعطيلِ الانتفاعِ من المعاني الثريَّة التي تتعلَّق بجدليَّة الإنسانِ وأغوار نفسِه.

التعامل مع مصطلحِ الكفرِ في القرآن مثالٌ، فالفهم السائد لهذا المصطلحِ أنَّه وصفٌ لغير المسلمين، لكنَّ التدقيقَ في السياقِ القرآنيِّ من سورة الفاتحةِ حتى سورة الناسِ يُظهر أنَّ الكفرَ وصفٌ لحالةٍ من أحوالِ النفسِ البشريَّة تشملُ خصائصَ نفسيَّةً مثل العنادِ والجحودِ والاستكبارِ والإعراضِ والمقتِ والسخطِ والنفورِ، وهو ما يعني أنَّ "الكفر" ليس تصنيفاً مغلقاً أو حكماً عامَّاً على أممِ الأرضِ، بل هو حالةٌ تذبذبيَّةٌ في داخل النفسِ تتعلَّق باختيارها: "هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ.." (آل عمران: 167).

الكفرُ في القرآنِ هو الجحود والعناد بعد تبيُّنِ الأدلة على الحقِّ، فليس كلُّ غير مسلمٍ كافراً بالضرورةِ، إنَّما يوصف الكافر بهذا الوصفِ إذا أنكر وكذَّب بعد أن عرف الحقَّ يقيناً:

- "فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ" (البقرة: 89).

- "كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (آل عمران: 86).

- "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواً" (النَّمل: 14).

الكفر لا يتعلق بميدان الفكرِ والرأي العقليِّ الحرِّ المبنيِّ على النظرِ والتدبُّرِ، فلا يصحُّ في السياق القرآنيِّ أن يكفرَ الإنسان من منطلقِ قناعةٍ عقليَّةٍ مجرَّدةٍ، إنما الكفر مشكلةٌ أخلاقيَّةٌ دافعها الكِبر، ويظهر في مئات الآياتِ في القرآنِ دافع الكبرِ في الكفر والتكذيب:

- "أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا".

- "أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ".

- "أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا".

- "مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ".

- "لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ".

- "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِياً".

- "وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ".

- "وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً".

- "وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً".

يذكر الكفر في القرآنِ دائماً مقترناً بمجيء البيِّنات والعلمِ، أي وضوح الأدلة العقلية: "وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ" (الأعراف: 101).

الكافر في القرآنِ هو كاذبٌ بالضرورةِ، ويستحيل أن يكون صادقاً لأنَّه عرفَ في قلبه الحقَّ ثم عانده وأنكره:

- "بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (الأنعام: 28).

- "بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (المؤمنون: 90).

حين يكذب الإنسان تنشأ فجوةٌ في شخصيَّتِه لأنَّه غير متصالحٍ مع قناعاتِه العميقة، ويحاول أن يحجبها بطبقةٍ من الأعذار، هذا الحجبُ والتغطيةُ هو المعنى الحرفيُّ للكفرِ، فالكفر في اللغة العربيَّة يعني التغطية.

يصف القرآنُ هذه الفجوةَ بالشِّقاق:

- "بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ" (ص: 2).

- "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ" (فصِّلت: 52).

الانفصالُ بين معرفة الحقيقةِ في أعماق نفسِ الإنسانِ "ما كانوا يخفون من قبلُ" وبين مواقفِه الخارجيَّة المعلنةِ ينشئُ اضطراباً، لذلك يذكر الكفرُ في القرآنِ مرتبطاً بالاضطراباتِ النفسيَّة:

- "بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ".

- "وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ".

- "بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ".

- "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ".

- "وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ..".

لا يمكن لِمن يخفي الحقَّ بعد أن علِمه ويجحد ويعاند أن يعيش في حالة سلامٍ وتوافقٍ، لذلك كانت هذه الاضطرابات من عتوٍّ ونفورٍ وإعراضٍ وكراهيةٍ ومقتٍ واشمئزازٍ ملازمةً طبيعيَّاً للكفر.

ولو أردنا مزيداً من التجريدِ للمعنى، فإنَّ الحقَّ يتعلَّق بأيِّ مسألةٍ من مسائل الحياةِ ولا يقتصر على قضايا الشرائع السماوية والرسلِ، فكلُّ من يعلم الحقَّ في قضيةٍ ما ثم يستكبر ويعاند ويؤثر مصالحه الخاصَّة على الالتزامِ بميزان الحقِّ والعدلِ فقد تشابه قلبه مع قلوبِ الذين كفروا في معالجة القرآن.

حين ينكر الإنسان الحقَّ الذي علِمه جحوداً وعناداً، فإنَّ مجرد التذكير بالحقِّ يستثير فيه طاقةً سلبيَّةً عدوانيَّةً لأنَّه يرجعه إلى مواجهة تناقضاته الداخلية التي يحاول الفرار منها، وقد رسم القرآن صورةً بليغةً للذين كفروا في الفرارِ من التذكرة: "فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (المدَّثر: 49-51).

لذلك يذكر القرآن أنَّ هناك من لا يزيده القرآن إلا طغياناً وخسراناً! كيف لكتاب هدايةٍ أن يكون خساراً لأقوامٍ!

ذلك أنَّ الهداية كاشفةٌ ومذكِّرةٌ لتناقضاتهم وأكاذيبهم الداخليَّة فكلَّما ذُكِّروا بالحقِّ أكثر وهم له كارهون؛ تعمَّقت الفجوة والشقاق في نفوسِهم بين ما تستيقنه نفوسهم في قرارتِها وبين دوافعِ الكبرِ التي تمنعهم من اتباع نداءِ الهداية:

- ".. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً" (المائدة: 64).

- "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً (الإسراء: 82).

هذا الاضطراب والشِّقاقُ الداخليُّ لا يطيقُ أن يظلَّ حبيس الصُّدورِ، لذلك يتحوَّل الكفرُ إلى طاقةٍ عدوانيَّةٍ موجَّهةٍ إلى رسل الحقِّ والعدل، لأنَّ دعوةَ هؤلاء الرسلِ تزعج محاولاتِهم بناءَ استقرارٍ وتوافقٍ داخل نفوسِهم: "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا" (الحجّ: 72).

ومن اللافت في قصص الرسل في القرآنِ أنَّ تكذيب الأقوامِ ليس مجرَّد موقفٍ سلبيٍّ من الدعواتِ، بل ينتج عنه موقفٌ عدوانيٌّ ضدَّ الرسل:

- "وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ".

- "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا" (إبراهيم: 13).

- "لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (يس: 18).

الكفر بطبيعتِه يحملُ بذورَ العدوانِ الخارجيِّ لأنَّ حالة الاضطرابِ والنفورِ والاشمئزازِ التي تملأ نفوسَ الذين كفروا لا تطيق الانحباسَ في الصدورِ، فتنطلق منها طاقةٌ عدوانيَّةٌ خارجيَّة: "الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ..".

لذلك فإنَّ فكرةَ "الكافر المسالم" تبدو بعيدةً عن روحِ القرآنِ، باعتبارِ التعريفِ النفسيِّ الدقيقِ للكافر أنَّه الذي استكبرَ وجحدَ ومقتَ وأعرضَ ونفرَ.

بناءُ السلامِ الخارجيِّ ليس سوى ثمرةِ بناءِ السلامِ الداخليِّ، والسلامُ الداخليُّ يبنى بتصالحِ النفسِ مع الحقِّ إذا جاءت به البيِّنات.

في سورة الفرقان مثالانِ في آيتين متقاربتين للذين كفروا والذين آمنوا:

- ".. وَزَادَهُمْ نُفُوراً" (60).

- "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63).

النفورُ في موقفِ الذين كفروا يحملُ طاقةً عدوانيَّةً، بينما المشي على الأرض هوناً ومخاطبة النَّاسِ بالسلامِ في مثالِ عبادِ الرحمن هو فيضانٌ لحالةِ السلامِ والطمأنينة الداخلية التي تملأ نفوسُهم، لأنَّ تصديقهم بالحقِّ صالحَ ظاهرهم مع خبيئتِهم، واجتماع قلوبهم نحو غايةٍ واحدةٍ كبرى وهي الله تعالى حرَّر نفوسهم من الشقاق والتفرُّقِ وملأ الفراغاتِ فأضفى ذلك عليهم طمأنينةً وأمناً وسلاماً: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (الأنعام: 82).

twitter.com/aburtema
التعليقات (0)