فجرت ظاهرة انتشار وباء كورونا جدلاً واسعاً في كثير من الأوساط حول مرض نفسي معروف: مرض الشعور بالوحدة. لقد أدى اضطرار الملايين إلى البقاء في بيوتهم وعدم الذهاب إلى أماكن العمل، وتجنب كل مناسبة جماهيرية وعدم التزاور مع الأصدقاء والأقارب، إلى انتشار ذلك المرض النفسي وإلى ازدياد بعض نتائجه، مثل الانتحار، أو الأمراض العقلية المزمنة.
واعتقد البعض بأن كل ذلك سيكون مؤقتاً، وستزول آثاره بانحسار وباء كورونا، لكن الصعود المذهل لممارسة التواصل الاجتماعي عن طريق شتى الوسائل الإلكترونية من قبل كل الأعمار في كل مجتمعات العالم، أعادت مؤخراً إلى النقاش ظاهرة الوحدة الفردية والجماعية التي ميزت فترة انتشار الوباء. ومؤخراً بدأ الكثيرون من علماء النفس ومن مفكري علوم الاجتماع، يضيفون مصدر خوف وقلق آخر في هذه الساحة: حلول الروباتات ووسائل الذكاء الاصطناعي الأخرى محل مئات الملايين من القوى العاملة المستقبلية، وبالتالي انضمام تلك الملايين إلى قوائم العاطلين عن العمل، الذي بدوره سيفاقم ظاهرة الوحدة الفردية والجماعية.
من هنا المطالبة الواسعة من قبل مختلف العلماء والمفكرين بضرورة إجراء تغييرات كبرى في أفكارنا ونظمنا السياسية والاقتصادية، وفي تنظيمات علاقاتنا المجتمعية الاجتماعية، وذلك من أجل مواجهة ظاهرة الوحدة الزاحفة بعنف، لا كظاهرة طبيعية محدودة كما كان الحال عبر القرون الماضية، ولكن كموجات كبيرة متلاحقة، ما إن تهدأ إحداها، إلا وتتبعها موجة أخرى جديدة أكبر وأعقد وأخطر. ما يدفع إلى المطالبة بإجراء التغييرات الفكرية والسلوكية الكبرى، هو الاقتناع التام بأن المسؤول الأول عن كل ما يحدث هو
الإنسان نفسه، فردا وجماعة، وعبر العالم كله، ولكن على الأخص إنسان الحضارة الغربية المهيمنة والقائدة لهذا العالم.
ولما كان هذا الموضوع، ظاهرة وأسباباً ونتائج، مرتبطاً بالمستقبل المنظور، فإنه من الضروري أن يعيه شباب وشابات الأمة بعمق وموضوعية، وأن يحملوا جزءاً من مسؤولية مواجهته من خلال عملهم السياسي النضالي الوطني والقومي والأممي. فهذا الموضوع مرتبط بالفعل بنوع القرارات السياسية التي تتخذ، وبإدارة الاقتصاد وعدالة توزيع خيراته، وبالثقافة المجتمعية السائدة، وعلى الأخص الجانب الإعلامي والفني منه. وهو بالتالي مرتبط بنوع ومستوى قيادة المجتمعات ومدى التزام تلك القيادات بالقيم الإنسانية والأخلاقية، بعد أن تبين أن بعضاً من القيادات تساهم في أسباب ونشر الوحدة. ولأنه كذلك فهو في صلب المسؤوليات التي يجب أن يحملها ويكافح من أجلها الشباب والشابات قبل أن ينتشر ذلك الوباء في صفوفهم.
وكواحد من المجتمعات الإنسانية فإنه مطلوب من المجتمع العربي أن يساهم في حمل مسؤولية المواجهة، خصوصاً بعد أن بدأت ظواهر مصاحبة عادة للوحدة تنتشر أيضاً في الوطن العربي، مثل ازدياد نسب الانتحار والأمراض النفسية والالتحاق بمتاهات الأنشطة العنفية العبثية والتمرد على القيم الدينية والأخلاقية، إلخ. سنحاول أن نبرز بتدرج في المستقبل شتى الجوانب التي تساهم في انتشار الوحدة، التي تهم المجتمعات العربية قاطبة، وعلى الأخص مكوناتها الشبابية، ونطرح للنقاش بعضاً من التغييرات الفكرية والسلوكية الضرورية لمواجهة مجتمعاتنا عبر الوطن العربي كله لهذه الظاهرة الجديدة، الفردية منها والجماعية.
(القدس العربي)