قضايا وآراء

قراءة في برلمان "التأسيس الثوري الجديد"

عادل بن عبد الله
مُنع الصحفيون من الدخول للبرلمان- جيتي
مُنع الصحفيون من الدخول للبرلمان- جيتي
منذ ظهور نتائج الاستشارة الوطنية الإلكترونية، بدا واضحا أن إعادة هندسة الحقل السياسي التونسي ستتم بعيدا عن عاملين، بل بالتقابل معهما: نسبة المشاركة أو الدعم الشعبي من جهة أولى، وخيارات أنصار الرئيس أنفسهم من جهة ثانية. فرغم ضعف نسبة المشاركة في الاستشارة الوطنية الإلكترونية (شارك 534 ألفا من المواطنين الذين يبلغ عددهم 11 مليون نسمة)، أصرّ الرئيس على المضي قُدما في خارطة الطريق الثلاثية (استشارة، استفتاء، انتخابات تشريعية)، كما أصرّ على كتابة دستور جديد مخالفا رأي أغلبية المشاركين في الاستشارة الإلكترونية. فقد أيّد 38 في المائة من أنصار الرئيس تعديل دستور 2014 مقابل 36.5  في المائة، كانوا مع وضع دستور جديد.

ولم يكن موقف الرئيس من نتائج الاستفتاء الدستوري (أي من مشاركة أقل من ثلث الناخبين، الأمر الذي يطعن في شرعية "التأسيس الجديد")، مخالفا موقفه السابق، إذ أعلن أنه سيواصل خارطة طريقه ودعا إلى انتخابات تشريعية تحت سقف الدستور الجديد وبنظامه الانتخابي الجديد، وقد جاءت نتائج الدورتين الانتخابيتين لتؤكد "لا شعبية" المشروع الرئاسي، وفقدانه للشرعية الشعبية (عزوف ما يقارب 89 في المائة من الناخبين عن المشاركة).

يجد الرئيس حرجا في رفض أي حوار مع خصومه كما كان دأبه منذ إعلان إجراءاته يوم 25 تموز/ يوليو 2021، بل رفض الحوار حتى مع الموالاة النقدية التي تعترف بشرعية "تصحيح المسار"، ولكنها تعترض على بعض خياراته السياسية والاقتصادية.

ولكنّ الرئيس لم يعتبر العزوف الشعبي رسالة سياسية تستحق القراءة، فواصل الحديث باسم "الشعب" (كل الشعب بلا استثناء)، محتكرا إرادته ورافضا التسليم بوجود وساطات شرعية أخرى، أي أجسام وسيطة تمثّل الشعب مثله تماما. ولذلك لم يجد الرئيس حرجا في رفض أي حوار مع خصومه، كما كان دأبه منذ إعلان إجراءاته يوم 25 تموز/ يوليو 2021، بل رفض الحوار حتى مع الموالاة النقدية التي تعترف بشرعية "تصحيح المسار"، ولكنها تعترض على بعض خياراته السياسية والاقتصادية.

وسط إجراءات أمنية مشددة وبعيدا عن أي تغطية إعلامية غير رسمية (منع الإعلاميين من دخول البرلمان والاكتفاء بصحفيي القناة التلفزية الرسمية ووكالة تونس أفريقيا للأنباء)، انعقدت يوم الاثنين الماضي أولى جلسات البرلمان التونسي الجديد، وهو أحد غرفتي "الوظيفة التشريعية" (حسب الجهاز الاصطلاحي للرئيس الذي لا يقول بوجود "سلطة" إلا للشعب). وفي انتظار انتخابات "مجلس الأقاليم والجهات" (الغرفة الثانية للبرلمان)، اجتمع 154 نائبا من جملة 161 نائبا، بحكم عدم وجود مترشحين لتمثيل التونسيين في سبع دوائر انتخابية في المهجر. ولم يكن غياب المترشحين عن بعض الدوائر هو التعبير الأوحد عن لا شعبية البرلمان الجديد وهشاشة "شرعيته". فقد ترشح شخصان فقط في 8 دوائر انتخابية، واستطاع 10 مترشحين (في الداخل والخارج)، الفوز من الدور الأول لعدم وجود من ينافسهم على مقاعدهم النيابية.

بصرف النظر عن "شرعية" انتخابات تندرج في خارطة طريق مفروضة بمراسيم وأوامر لا تقبل الطعن أمام أية جهة رقابية، ولا تمثل إلا عُشُر الجسم الانتخابي، وبصرف النظر عما حذّر منه بعض الخبراء من ضعف المستوى التقني للمرسوم الرئاسي الذي نقّح القانون الانتخابي، وما قد ينتج عن تطبيقه من ثغرات وإشكالات إجرائية، يبدو أن تركيبة البرلمان وصلاحياته لن يكونا حجة جيدة للدفاع عن سردية الرئيس التي تتحدث عن التمثيلية الشعبية و"اللا عودة إلى الوراء"، ومحاسبة الفاسدين، و"نهاية زمن الأحزاب" وضرورة تصعيد النخب البديلة إلى مراكز القرار. فمن جهة "التمثيلية الشعبية" عرفت الانتخابات البرلمانية الأخيرة أقل نسبة إقبال منذ الثورة، بل جعلت تونس تتصدر الترتيب الدولي في نسبة المشاركة الشعبية -سواء في انتخابات برلمانية أو رئاسية- متقدمة على هايتي وأفغانستان والجزائر.

بصرف النظر عن "شرعية" انتخابات تندرج في خارطة طريق مفروضة بمراسيم وأوامر لا تقبل الطعن أمام أية جهة رقابية ولا تمثل إلا عُشُر الجسم الانتخابي، وبصرف النظر عما حذّر منه بعض الخبراء من ضعف المستوى التقني للمرسوم الرئاسي، الذي نقّح القانون الانتخابي وما قد ينتج عن تطبيقه من ثغرات وإشكالات إجرائية، يبدو أن تركيبة البرلمان وصلاحياته لن يكونا حجة جيدة للدفاع عن سردية الرئيس.

أما من جهة "اللا عودة إلى الوراء"، فقد واجهت نتائج الانتخابات طعونا قوية من جهة حيادية الجهة المشرفة عليها (الهيئة العليا المستقلة للانتخابات)، بل من جهة انطباق سمة "الاستقلالية" عليها، وهي المعينة بمرسوم رئاسي. وهو ما يُمثّل عودة صريحة إلى الزمن الاستبدادي حيث كانت السلطة التنفيذية -خاصة وزارة الداخلية- هي من تشرف واقعيا على تنظيم الانتخابات وتحديد نتائجها مسبقا، بما يوافق هوى حاكم قرطاج. وفيما يخص محاسبة الفاسدين أو على الأقل استبعادهم من "الوظيفة التشريعية"، يبدو أن هناك شبهات قوية تمس عددا من النواب؛ فقد تم إخراج أحد النواب من طرف الأمن بعد أدائه اليمين الدستورية، كما صدرت -حسب صفحة أحد أنصار الرئيس المعروفين- بطاقة إيداع في حق نائبة، وتوجد قضايا مرفوعة ضد 4 نواب آخرين.

رغم إعلان الرئيس منذ حملته الانتخابية نهاية زمن الأحزاب، ورغم اعتماد القوائم الفردية في الانتخابات التشريعية، فإن الكثير من النواب ينتمون إلى أحزاب كانت جزءا من منظومة الحكم أو المعارضة خلال ما يسميه الرئيس وأنصاره "العشرية السوداء". وقد أصدر موقع "الكتيبة" الإلكتروني جدولا أثبت فيه انتماء 35 نائبا إلى أحزاب "الموالاة " (خاصة حركة الشعب)، بل حتى إلى بعض مكونات المعارضة الجذرية (حركة النهضة وحزب العمال وحراك تونس الإرادة).

ونحن نذهب إلى ضرورة التعامل النقدي مع هذه الصُّنافة؛ لأننا نرى أن المحدد الأساسي ليس الانتماء بعد الثورة، بل قبلها. ونقصد بذلك أن كل هؤلاء المتحزبين قد كانوا إمّا من المنتمين إلى الحزب الحاكم زمن المخلوع، ثم مارسوا السياحة الحزبية بعد الثورة (في نداء تونس أو حزب المبادرة وغيرهما)، أو كانوا من المطبعين مع نظام المخلوع ومن المتحالفين مع ورثته. وهو ما يعني -في التحليل الأخير- أنّ المنظومة القديمة هي المتحكم الأهم في هندسة المشهد البرلماني، وأنّ النخب البديلة مجرد شعار انتخابي لا محصول تحته، وأن "التجمع" هو الحزب الأقوى في البرلمان سواء بميراثه البشري أو بعقليته الانتهازية.

في مواجهة الحضور الحزبي المتغطي بالاستقلالية، أعلن الرئيس أنه لا مكان للتكتلات البرلمانية. وقد دعّم هذا الرأي رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة؛ الذي قال في تصريح إعلامي بـ"عدم اعتقاده في أن اختيار تنظيم الكتل سيكون الخيار الأمثل"، كما قال في كلمته خلال الجلسة الافتتاحية للبرلمان: "بعد هذه اللحظة، نحن كتلة واحدة وسنعمل اليد في اليد لرفع التحدي". ولا شكّ في أنّ عدم السماح بوجود كتل، هو الخيار الأكثر عقلانية بالنسبة إلى رأس السلطة؛ فوجود كتل برلمانية يعني وجود انقسامات أو احتمال حصول صدامات بين النواب مما يذكّر بالمشهد النيابي الماضي. والأخطر أنه قد يعني عدم وجود تجانس بين أنصار "تصحيح المسار"، واحتمال ظهور قيادات برلمانية قد تنافس الرئيس ولو في المدى البعيد.

يبدو أن التأسيس الجديد -سواء في إدارة الدولة أو في المشهد البرلماني- لا يعني واقعيا إلا عودة المنظومة القديمة للحكم بعد التخلص من خصومها التقليديين زمن المخلوع، وبعد "تحجيم" دور أغلب حلفائها بعد الثورة.

ختاما، يبدو أن التأسيس الجديد -سواء في إدارة الدولة أو في المشهد البرلماني-، لا يعني واقعيا إلا عودة المنظومة القديمة للحكم بعد التخلص من خصومها التقليديين زمن المخلوع، وبعد "تحجيم" دور أغلب حلفائها بعد الثورة. فالإدارة التونسية ما زالت تحت هيمنة المنظومة الشيو- تجمعية، وما زال الرئيس، مثل اتحاد الشغل وأغلب "القوى الحداثية"، يعتبر أن "اختراق الدولة" هو استراتيجية خصومه السياسيين، خاصة حركة النهضة ومن رضي بالتحالف معها. أما باقي الأيديولوجيات أو السرديات الكبرى (السرديات البورقيبية والقومية واليسارية)، فإنها جزء من الدولة، وجزء من تصحيح المسار بشرط أن تتخلص من هوياتها وتنظيماتها التقليدية، أو على الأقل تضعها في خدمة التحالف الموضوعي بين الرئيس والمنظومة القديمة.

ونحن نرجح ألّا يخرج البرلمان الجديد عن هذه الرؤية السلطوية بحكم محدودية صلاحياته وبحكم اشتغاله تحت ضغطي رفع الحصانة وسحب الوكالة، وخاصة بحكم القبول المبدئي لكل النواب بهامشية دورهم ومركزية دور الرئيس- المؤسس في صناعة القرار السيادي بعيدا عن أي مساءلة برلمانية.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)