ظهر
الاستشراق بفعل اهتمام الغربيين في علوم الشرق وشؤونهم، هذا الاهتمام
الذي شمل عمليات بحثيّة مستمرة في مختلف جوانب الحياة، ابتداءً من الدين والأعراف
وحتى
الثقافة والعلوم.
ويعدّ الشرق الصورة المضادة الأكثر تجليا للغرب، وقد يفسّر هذا اهتمام
الغربيين الشديد به.
ما الاستشراق؟
اختلفت تعريفات المفكرين ونظرتهم للاستشراق، وأوضح أستاذ الفلسفة العربية
واليونانية في جامعة تونس الأولى، أبو يعرب المرزوقي، في حديثه لـ"عربي
21"، أن "الاستشراق بحث علميّ ينتسب إلى العلوم الإنسانية، وله مثلها نفس
القصور من حيث درجة العلمية، وينتسب إلى الاثنولوجيا والانثروبولوجيا والتاريخ
الحضاري، لوصفه الحضارات وأثرها في أصحابها مع فرضيات للتعليل الدوري، أي تعليل
صفات الحضارة بصفات أصحابها، ثم العكس، يصف أصحابها بها، في ما يشبه إشكالية
البيضة والدجاجة."
كما يرى أن تعريف الاستشراق "ليس خاصًا بالحضارة الإسلامية، بل هو
يشمل كل الحضارات، وحتى الشرق فهو ليس مقصورًا على الشرق الإسلامي فقط. وهو إذن
أحد فروع البحث في الحضارات عامة شرقيها وغربيها".
وأضاف المرزوقي بأنه "لابد للاستشراق من أن يركز على الشعوب التي سيطر
عليها الغرب بعد أن سيطر على العالم".
مراحل الاستشراق
تطورت دراسات المستشرقين منذ بدايتها وحتى الآن، ويرى المرزوقي بأن بحث
الغرب في الشرق الإسلامي "مر بخمس مراحل، تميّز فيها الاستشراق الغربي بصفات
حددتها موازين القوى بينه وبين منافسيه" وفصّلها كما يلي:
(بينه وبين منافسيه) لمّا كانت له الغلبة.
(بينه وبين مستعمراته) بعد أن صارت له الغلبة.
(بينه وبين منافسيه) بعد شروع العالم القديم في النهوض.
بداية تشككه في كونيته.
مرحلة الشك في ذاته، وعودة الخوف من فقدان سلطانه على العالم.
وأردف بأن "كل هذه المراحل قد غلب عليها دور علاقة الغرب بالحضارة
الإسلامية." وعلّل ذلك بأن كل العالم الذي صار مستعمرات غربية، كان إما
مسلما، أو تابعًا للإمبراطورية الإسلامية.
وهذا يتفق مع ما قاله إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" بأن أحد
أهم أسباب اهتمام الغرب بالشرق، هو أن الشرق ليس فقط مُجاورًا لأوروبا، بل إنه
موقع أعظم وأغنى وأقدم المستعمرات الأوروبية، وهو مصدر حضارتها ولغتها، ومنافسها
الثقافي.
وأضاف المرزوقي بأن "ما يغلب على الاستشراق اليوم، هو بداية الوعي
برؤية جديدة لشعوب الشرق عامة والمسلمين خاصة، لما بين حضارة الغرب وحضارة
المسلمين من تنافس، منذ بداية الفتح الإسلامي للغرب إلى بداية الاستعمار الغربي
للعالم الإسلامي، بل وللشرق كله، الذي كان كله تابعا للإمبراطورية الإسلامية."
تهم نحو الاستشراق
اختلفت آراء الناقدين حول الاستشراق، بعضهم رأى بأن الاستشراق فرصة لحفظ
المخطوطات الإسلامية القديمة، ولنقل حضارة الشرق للآخر، والبعض رأى بأنه ليس إلا
قناعًا لتغطية أطماع الغرب في بلاد الشرق.
وفي ضوء الحديث عن التُّهم الموجهة للاستشراق، بيّن المرزوقي رأيه في ذلك
قائلاً: "أشك في جدية التُّهَم الموجهة إليه؛ لأنه لا يمكن أن ننسب إليه
فاعلية دوره في الحرب على المسلمين خاصة، وحصره في هذا الدور فقط، فالحصر ينفي عنه
وظيفته المعرفية، التي لا ينكرها من لا يدرك العلاقة بين الأمرين".
ولا يستبعد المرزوقي أن يكون الاستشراق أحد أدوات الحرب بين هذه الحضارات،
وأضاف بأن "هذا الدور ليس الوحيد للاستشراق، فهو كذلك يبحث في كل المعارف
والعلوم، والتي من شروط استعمالها أن تكون نافعة، والعلم لا يكون نافعًا إذا كان
فاقداً للمعرفة
وأردف "لا يمكن التشكيك في موضوعية الدراسات الاستشراقية وردّها إلى
بعض توظيفاتها".
أما عن خدمة الاستعمار فأوضح المرزوقي أن ذلك "يتطلب فهم مجال بحثهم،
فهو ما يجعل الفعل فيه يكون على علم، وهذا جزء من استراتيجية كل حرب، فمعرفة نقاط
ضعف المنافس شرط القدرة على التأثير فيه والتغلب عليه بخداعه، وبذلك، فلا يمكن أن
ننسب إليه دور الاستشراق في الحرب، ثم ننفي عنه طلب المعرفة الحقيقة بالقدر
الممكن، في العلوم الإنسانية واستعمالها في التأثير على البشر".
أما أستاذة الاستشراق في الجامعة الهاشمية، الدكتورة رائدة أخو زهية، قالت
في حديثها لـ"عربي21": "إن الاستشراق لعب دورًا كبيرًا في الحفاظ
على التراث العربي، ويظهر ذلك من المخطوطات التي قاموا بتحقيقها ونشرها، ومن
المعاجم التي الّفوها كالمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبويّ الشريف".
لكنها وفي نفس السياق لفتت إلى أنها لا تستبعد حجب المستشرقين لبعض
المخطوطات عن الباحثين حتى لا تفضح أهدافهم.
ومن جهتها أوضحت أخو زهية أن "الاستشراق جاء لخدمة الاستعمار،
والدراسات التي يقوم بها المستشرقون كانت في الخطط التي وضعتها دول الاستعمار
للسيطرة على الدول الضعيفة والنامية".
وقد لفت إدوارد سعيد لهذه الفكرة في كتابه "الاستشراق"، حين
عرّفه بأنه أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلّط عليه.
ولعل أكثر الطرق فاعلية في استعمار الدول أو شن الحروب عليها، هو دس
الجواسيس في المجتمع، وأكدّ المرزوقي بأن "من يختار الجواسيس لا يختارهم من
الأميين".
وأضاف بأن "بعض المستشرقين كانوا جواسيس، ولعل أبرز مثال "آن
ماري شمل" المختصة في التصوّف الإسلامي، و"ماسينيون" وموقفه
المشبوه في المغرب، وسوريا، ومصر، إضافة إلى مسعاه التبشيري".
وبالحديث عن استعمال القوى العظمى للاستشراق، في خدمة مصالحها في الشرق
الأوسط، أو لهيكلة العالم من منظورٍ أوروبيّ وغربيّ، أكّد المرزوقي على ذلك وبيّن
بأنها "ما كانت لتستخدمه لو لم يكن ذا فاعلية".
وأضافت أخو زهية على ذلك بأنه "كما خدم الاستشراق الاستعمار سابقًا،
سيخدم أمريكا الآن بتحقيق خططها في الشرق الأوسط".