برغم أن الوطن
العربي المكون الأكبر والأكثر تمددا وانتشارا على قارتي آسيا وأفريقيا بـ22 دولة، وبتعداد سكاني يفوق 450 مليون نسمة ـ ربعهم في مصر ـ وتحكم الدول العربية بأكبر ثروات طبيعية ـ طاقة النفط والغاز الأكبر في العالم إنتاجا واحتياطات نفطية وغاز وبالمضائق المائية الأهم على مستوى العالم من مضيق هرمز، يمر عبره ربع الإنتاج النفطي العالمي المحمول ـ ومضيق باب المندب بين اليمن والقرن الأفريقي وقناة السويس ـ، وباستثمارات صناديق سيادية تريليونية هي الأكبر في العالم للكويت والإمارات والسعودية وقطر بالترتيب ـ، إلا أننا نفتقد لمكون مهم وأساسي، هو غياب
مشروع أمني ودفاعي عربي جامع، يعزز دور ومكانة الردع العربي ويصهر القوة المشتركة في بوتقة واحدة، تمنع وتتصدى لتطاول وتدخل عبث المشاريع الإقليمية والدولية من تهديد واستباحة الأمن الفردي والجماعي للدول العربية.
يعاني النظام الأمني والدفاعي العربي من خليجه إلى محيطه من خلل بنيوي يعيق بلورة وتشكيل نظام أمني مكتمل الأركان، يوازن ويردع ويمنع المشاريع الإقليمية المتمثلة بمشروع إسرائيل الأخطر، وإيران التوسعي الطائفي، وتركيا بعودة العثمانية. وذلك عبر تطبيع مصر والأردن، وحديثا بالاتفاقيات الإبراهيمية مع إسرائيل، ومشروع إيران عبر وكلائها وأذرعها التي أضعفت الأنظمة العربية، ومفاخرتها بالسيطرة على أربع عواصم عربية.
وتساهم الأنظمة العربية الهشة والفاشلة والقمعية بإضعاف النظام العربي. كان على رأسها نظام صدام حسين بحساباته الخاطئة وحروبه الكارثية التي قلبت موازين القوى، واستحضرت الحماية الأجنبية ـ الأمريكية، وبإقامة قواعد عسكرية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بطلب ورغبة الحلفاء الخليجيين باحتلاله، ورفضه الانسحاب من الكويت قبل 32 عاما.
وساهمت الخلافات العربية ـ العربية بترهل ووهن النظام العربي. فسيطرت وتحكمت سوريا في لبنان لثلاثين عاما، وتفاقم الخلاف بين الجزائر والمغرب حول البوليساريو والصحراء الغربية بتجميد الاتحاد المغاربي منذ 30 عاما، ومؤسف إغلاق الحدود بين الجزائر والمغرب، لتتفاقم الأوضاع وتقطع العلاقات الدبلوماسية وتغلق الجزائر مجالها الجوي أمام الطيران المغربي!
وشهد مجلس التعاون الخليجي أزمات وخلافات متلاحقة على أهدافه ومصادر الخطر، وفشل بالانتقال من مراوحة التعاون إلى الاتحاد، لتعزيز مكانته كأنجح تجمع إقليمي عربي، ومركز القرار وقيادة النظام العربي ـ بعد أطول وأخطر انتكاسة في تاريخه بتفجر الأزمة الخليجية في 5 يونيو/حزيران 2017 بين كل من السعودية والإمارات والبحرين، ومعهم مصر في مواجهة قطر! كان صادما طول أمد الأزمة لثلاثة أعوام ونصف، والأخطر؛ أدت الأزمة الخليجية لإضعاف كيان مجلس التعاون الخليجي، ومعها النظام الأمني العربي.
كان مجلس التعاون الخليجي وقتها، مركز الثقل والقيادة للنظام العربي، بخروج مصر بعد ثورة يناير 2011 ومعها سوريا بعد عسكرة وقمع نظام بشار الأسد الثورة السورية بالقوة وخرق سيادته، وقبلهما خروج العراق بعد هزيمته المذلة في حرب تحرير الكويت، وفرض عقوبات دولية وسقوط نظام البعث وتفكيك الجيش وهيمنة أمريكا وإيران على مقرات العراق، وتحوله لدولة وكيان هش. ومن ثم فقدت جميع الدول العربية المركزية مكانتها ودورها، وخرجت من معادلة الدول الرئيسية في نظام أمن المشرق العربي، لينتقل الثقل ومركز القيادة لدول مجلس التعاون الخليجي. ومن ثم انضمت دول مجلس التعاون الخليجي لمرض الترهل العربي.
كما ساهمت الأزمة الخليجية بصعود دور تركيا في منطقة الخليج، بتفعيل قطر وتركيا الاتفاقية الأمنية بعد اندلاع الأزمة الخليجية ومصادقة مجلس النواب التركي على الاتفاقية الأمنية مع قطر، وإرسال بضعة آلاف من الجنود الأتراك إلى قطر، وتطور العلاقة بين البلدين إلى علاقة استراتيجية.
شاركت مطلع العام بمؤتمر نظمته إدارة الاتصالات في الرئاسة التركية، ومركز دراسات استراتيجية في إسطنبول عن العلاقات التركية ـ الخليجية ـ ولمست من مداخلات المشاركين الأتراك رغبة بتطوير العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي؛ انطلاقا من قطر، وفي أعقاب التقارب بين تركيا والسعودية، وتوقيع الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الإمارات وتركيا لرفع التبادل التجاري لـ25 مليار دولار في 5 سنوات.
ومن ثم تتقدم العلاقات الخليجية ـ التركية على مختلف الأصعدة. وحتى عسكريا ـ بنجاح المسيرات التركية بيرقدار في طرابلس وأذربيجان وأوكرانيا. وموقف تركيا في حلف الناتو والتلويح بالفيتو ضد انضمام السويد، والتوسط لحل دبلوماسي لحرب روسيا على أوكرانيا. وبقوة تركيا الناعمة بزيارات السياح الخليجيين بأعداد كبيرة وامتلاكهم عقارات، والاستثمارات الحكومية والفردية.
ساهمت انقلابات العسكر في الجمهوريات العربية منذ خمسينيات القرن العشرين في مصر والعراق وسوريا وليبيا والسودان وموريتانيا، وتحكّم النخب العسكرية في أنظمة جمهورية عربية، وانقلابات القصور الناعمة البيضاء على الدستور، كما نشهد اليوم، بتعميق المأزق، وأضعف قدرات تشكيل نظام أمني ينتج مشروعا عربيا جامعا.
كما أن فشل جميع محاولات ومشاريع التحالفات العربية العسكرية، لا يدع مجالا للتفاؤل بنجاح أي مشروع تحالف، من اتفاقية الدفاع العربي المشترك التي لم تردع إسرائيل عن شن حروبها على مصر وسوريا والأردن ولبنان، وهزيمة الجيوش العربية. ولا في ردع إسرائيل من الاعتداءات المتكررة على لبنان وسوريا، ولا في حماية الكويت وتحريرها دون تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. ولا في إنهاء الخلافات العربية ـ العربية التي وصلت لحد القطيعة، بقطع العلاقات وطرد السفراء وإغلاق الحدود. ما ساعد وجرّأ القوى الدولية على الحضور العسكري، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وعزز تقدم المشاريع الإقليمية بالتدخل والعبث والتحريض واختراق النظام الأمني العربي العاجز.
فلا نجد اليوم موقفا عربيا موحدا تجاه التطبيع مع إسرائيل، ولا في الاتفاق على تهديد إيران الوجودي للأمن الفردي والجماعي العربي، وملفت تراجع المناكفات مع تركيا. وحتى عربيا، نشهد الانقسام العربي الفاضح حول إعادة العلاقات وفتح السفارات والتطبيع وتعويم نظام الأسد المعلقة عضويته في جامعة الدول العربية، لتنكيله وتهجيره نصف شعبه ( 13 مليونا) بين لاجئ في الخارج ونازح في الداخل منذ عسكرته الثورة عام 2011!
متى ننتفض ونستوعب الدروس والعبر؟!
(القدس العربي)