كتاب عربي 21

المغتصبون.. مقال رائحته "نتنة"

طارق أوشن
تفاعل مغربي عقب حكم القضاء الفرنسي بسجن الفنان سعد لمجرد- (الأناضول)
تفاعل مغربي عقب حكم القضاء الفرنسي بسجن الفنان سعد لمجرد- (الأناضول)
في العام 1998 اتهمت فتاة فرنسية باسم جولي شابا من أصل مغربي اسمه فريد الحايري بالاعتداء الجنسي عليها واغتصابها. كان عمرها خمس عشرة سنة بينما كان عمر الشاب سبعة عشر عاما. هي ابنة عائلة تملك شركة متوسطة الحجم وتشغل خمسين عامل بمنطقة سكناهما. أما الشاب فكان ابن عامل وموظفة في سلك التعليم. أخواها كانا يدرسان في مدارس عليا أما أحد إخوة فريد فمعروف لدى أجهزة الأمن التي سبق لها التعامل معه في قضايا سرقة وغيرها.

فريد كان المتهم النموذجي، ولم يحتج المحققون غير شهادة جولي لاتهامه بالاعتداء الجنسي على قاصر واغتصابها. تم الحكم على فريد الحايري بالسجن خمس سنوات منها أربعا وشهرين موقوفة التنفيذ. كان غريبا أن تكتفي المحكمة بما قضاه المتهم كحبس احتياطي كعقوبة نافذة وتخلي سبيله بعدها. يومها، علم الجميع أنه خطأ قضائي وأن الشك كان السيد لدى المحلفين والهيئة، لكنهما اختارا قلب المعادلة القضائية وجعله (أي الشك) في صالح المدعية على عكس المتعارف عليه قضائيا. كان الهدف دفعه لتفادي اللجوء للدرجات الأعلى من التقاضي لستر عورة القضاء وهكذا كان.

ظل فريد الحايري مسجلا لأربع وعشرين سنة في السجل الفرنسي للمتهمين بالاعتداءات الجنسية، وكان مفروضا عليه التوجه سنويا لإثبات حضوره بمخفر شرطة محدد للغاية مدة خمسة عشر سنة كاملة، وظل هذا الماضي يلاحقه أينما حل وارتحل. والديه لم يسلما من تبعات القرار القضائي حيث حكم عليهما بدفع غرامة سبعة عشر ألف يورو، تقتطع من راتبيهما تضامنا، باعتباره قاصرا كان تحت مسؤوليتهما.

عندما يتبنى البرلمان الأوروبي، بمبادرة فرنسية واضحة، توصيات ضد المغرب بناء على أحكام قضائية صادرة بتهم الاغتصاب ويعتبر ذلك محاولة من السلطة للتشويه وتكميم الأفواه، تصبح نظرية المؤامرة هي البضاعة الرائجة، لتضيع معها الحقيقة وينتشر الشك في عدالة ما أظهرت يوما حيادا أو حرصا على صيانة حقوق الأظناء والمدعين.
في العام 2017، بعثت جولي، الفتاة "المغتصبة"، برسالة إلى سرية الدرك بمنطقتها، وفيها كتبت: "بعد سنوات من المتابعة والعلاج النفسيين، أعترف أنني كذبت. السيد فريد الحايري ليس مسؤولا عن أي شيء ولم يرتكب يوما أي اعتداء جنسي أو اغتصاب في حقي. الحقيقة كالتالي: لقد كنت ضحية سفاح قربى بشكل متكرر من طرف أخي الأكبر منذ الثامنة حتى الثانية عشرة من عمري. لم أستطع إخبار عائلتي والدرك والمحكمة وقتها. أحسن بالخجل والذنب في مواجهة فريد الحايري. لم يكن يستحق ما حدث له. لقد احتجت لسنوات طويلة لأخرج من هذا الإنكار. لا أستطيع، للأسف، إعادة الزمن للوراء. وأنا مستعدة لتحمل تبعات ما فعلت."

وصلت الرسالة للمحققين وظلت سنة كاملة دون رد، وهو ما اضطر السيدة جولي إلى التأكيد عليها مرة ثانية. كان الجميع يعلمون أن فريد الحايري بريء لكن الفتاة رغبت في حماية عائلتها بالقضاء على حياة عائلة أخرى. وفي الخامس عشر من شهر ديسمبر من سنة 2022، نطقت المحكمة أخيرا بحكم يبرئ فريد الحايري من تهمة الاغتصاب ليكون بذلك المتهم الثاني عشر في تاريخ الجمهورية الفرنسية الذي يتم إعادة الاعتبار القضائي له. لكن المهمة لم تنته بعد، فهو راغب في إعادة محاكمة حتى يتمكن من غسل شرفه الذي تم تدنيسه فقط بالاعتماد على شهادة المدعية، وهو ما يحدث في غالب الأحيان في مثل هذه القضايا. محامية جولي، السيدة وليس الفتاة، صرحت بعد النطق بالحكم أن الاعتراف بهذا الخطأ القضائي يدفعنا ل"عدم تقديس الشهادة، التي تحتاج إلى مواجهتها بمعطيات الملفات. لا يجب الاكتفاء بسماع وجهة نظر واحدة."

قبل أيام حوكم المغني المغربي سعد لمجرد بست سنوات سجنا على خلفية تهمة اغتصاب وجهت له من طرف فتاة فرنسية، وظلت داخل أروقة المحاكم سبع سنوات كاملة. بعدها بيومين أو ثلاث، فاجأتنا الصحف الفرنسية بتسريبات، صادفت ليلة ضمن التشكيلة المثالية في مسابقة الأفضل التي تنظمها الفيفا بالعاصمة الفرنسية باريس، مفادها تقدم فتاة بتصريح تؤكد فيه تعرضها للاعتداء الجنسي من لاعب المنتخب المغربي أشرف حكيمي دون رغبة في تقديم شكوى رسمية بالموضوع.

النيابة العامة الفرنسية معروفة بالمبادرة، أكثر من غيرها، بتبني مثل هذه القضايا والتحقيق فيها، وهو أمر محمود ومطلوب. لسنا هنا بمعرض الدفاع عن حكيمي أو غيره أو تبرير "أفعال" قد يكون ارتكبها. لكن المناسبة سانحة لاستذكار بعض الحالات التي أظهرت أن نفس النيابة العامة وقفت مغلولة الأيدي في مواجهة حالات مماثلة، أو هي أشد وضوحا من الناحية القانونية، أو أغلقت ملفات تشتم منها رائحة نتنة، ما كان يراد لها أن تظهر للعموم، بالنظر ل"سلطة" الشخصيات المعنية أو وزنها الاعتباري لدى الفرنسيين.

لنبدأ من حكومات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فقد واجه وزير داخليته الحالي جيرالد دارمنان، صاحب الطموحات الكبرى في اعتلاء الرئاسة بعد ماكرون، تهما بالاعتداء الجنسي انتهت للا شيء. نفس المصير كان من حظ وزير التضامن داميان عباد، وأيضا وزيرة شؤون التنمية والفرانكفونية والشراكات الدولية كريسولا زاخاروبولو،  وقبلهما وزير التحول البيئي، وأحد الرموز الفرنسية الأشهر، نيكولا هيلو، الذي اختار الانسحاب من الحياة العامة دون أن تتم مساءلته أو فتح تحقيق في الاتهامات الموجهة اليه من طرف عدد من النساء.

تاريخ فرنسا مع التغطية على جرائم منتسبي إداراتها ومؤسساتها السياسية طويل ومعروف. ولعل في الجرائم التي تعرضت لها المناضلات إبان فترة حرب الجزائر، ومنها حكاية المناضلة لويزة اغيل أحريز، مثال حي على ذلك. أيديولوجية "اغتصاب السمراوات" ظلت ملازمة لتدخل الجيوش الفرنسية كما سارت بذكره الركبان في مالي وإفريقيا الوسطى وغيرها من دول القارة السمراء.
في الإعلام والفن، ظلت الشهادات بالاعتداء الجنسي تتوالى على مقدم النشرة الإخبارية الرئيسية الأشهر على قناة تي اف 1 لعشرين سنة، باتريك بوافر دارفور، ومعه الممثل المعروف جيرار دي بارديو وغيرهما. وليس غريبا ألا تتم متابعة هؤلاء أو التماطل فيها، ففرنسا هي من حمت لعقود المخرج السينمائي المعروف رومان بولانسكي، الهارب من ملاحقات قضائية بالاغتصاب في الولايات المتحدة الأمريكية، وأمنت له الملاذ والدعم لمواصلة نشاطه السينمائي بل كرمته عدة مرات.

في الفاتح من شهر آذار (مارس) الجاري، بدأ عرض فيلم (النقابية) لمخرجه جان بول سالومي، وهو فيلم يستعرض قصة النقابية العمالية مورين كينري. بدأت قصة مورين في العام 2012 حيث كانت ممثلة للعمال في شركة أريفا. أقدمت مورين وقتها على فضح اتفاق بين شركة أريفا وشركة اي دي اف الفرنسيتين مع شريك صيني يقضي بنقل خبرات في مجال الصناعة النووية. بعدها وُجدت مغتصبة ومكبلة بمنزلها. وفي أثناء المحاكمة، وفي ظل غياب أية أدلة بما فيها أي بصمات جينية غريبة، اعترفت "الضحية" بأنها اختلقت الوقائع قبل أن تتراجع بدعوى تلقيها ضغوطات أثناء التحقيق. حوكمت النقابية بالسجن قبل إطلاق سراحها أربع سنوات بعد ذلك تمكن المحامون خلالها من إثبات اكتشاف المحققين لبصمات جينية لشخص مجهول ضاعت أثناء مراحل التحقيق. اعتبرت القضية "فضيحة دولة" دون أن يدفع ذلك القضاء الفرنسي للبحث فيها وكشف خباياها. لا يزال الفاعل حرا طليقا.

تاريخ فرنسا مع التغطية على جرائم منتسبي إداراتها ومؤسساتها السياسية طويل ومعروف. ولعل في الجرائم التي تعرضت لها المناضلات إبان فترة حرب الجزائر، ومنها حكاية المناضلة لويزة اغيل أحريز، مثال حي على ذلك. أيديولوجية "اغتصاب السمراوات" ظلت ملازمة لتدخل الجيوش الفرنسية كما سارت بذكره الركبان في مالي وإفريقيا الوسطى وغيرها من دول القارة السمراء.

هذا تذكير سريع ببعض القضايا التي ما استطاع القضاء الفرنسي تحريكها أو السير فيها حتى الإدانة، وهو تذكير لا يعني في أي حال من الأحوال دعوة للتراخي أو غض النظر عن جرائم الاغتصاب مهما كان مرتكبوها ومهما حملوا من جنسيات. هو تذكير بسيط لاستخلاص الدروس قبل إصدار الأحكام أو تشويه السمعة الذي لا يبدأ من تحقيقات الشرطة وينتهي على صفحات الجرائد والمواقع ونشرات الأخبار.

وعندما يتبنى البرلمان الأوروبي، بمبادرة فرنسية واضحة، توصيات ضد المغرب بناء على أحكام قضائية صادرة بتهم الاغتصاب ويعتبر ذلك محاولة من السلطة للتشويه وتكميم الأفواه، تصبح نظرية المؤامرة هي البضاعة الرائجة، لتضيع معها الحقيقة وينتشر الشك في عدالة ما أظهرت يوما حيادا أو حرصا على صيانة حقوق الأظناء والمدعين.

عمر الرداد البستاني المغربي، المتهم في قضية قتل مشغلته غيسلين مارشال، قبل الإفراج عنه بقرار رئاسي أيام الرئيس جاك شيراك، لا يزال يجاهد سعيا لإعادة محاكمته ورد الاعتبار حتى اليوم.
التعليقات (3)
إبن محمد
الأحد، 05-03-2023 04:17 م
صحيح السي المدني, ليس فقط أن القضاء الفرنسي مسيس بل كل شيء عندهم, حتى إعلامهم و إقتصادهم. في فرنسا الدولة مركزية و مهيمنة بشكل كبير... المنظمات الحقوقية في بريطانيا و الولايات المتحدة تنتقد في كل تقاريرها معاملة فرنسا لأقلياتها المسلمة بإستمرار. المملكة المغربية, تركيا و إسرائيل من الدول االقريبة لأوروبا الواعية جدا بهذا الواقع و التي أصبحت لا تأبه بفرنسا بل تنتقدها بندية و تنتظر منها إحترام ما تتشدق به من حقوق إنسان و لبرالية إقتصادية.
المدني
الأحد، 05-03-2023 12:23 م
كاتبنا المحترم طارق أوشن وبعد, شكرا جزيلا لمقالاتك التي نطالعها باستمرار و للمواضيع التي تعالجها فيها. تناولك لقضايا راهنة تخص وطننا المغرب الكبير أمر محمود تشكر عليه الشكر الجزيل. أود بهذه الناسبة أن ألفت النظر إلى أن القضاء الفرنسي دائما ما ينظر إليه في الدول الأنكلوساكسونية على كونه مسيسا و خاضعا للفاعلين السياسيين. فرنسا دولة تتخبط مؤسساتيا في كثير من الآزمات و المشاكل, كما أن ديموقراطيتها و إقتصادها في الحضيض. و كما يعلم الجميع هناك صراع أو تحدي, منذ تقريبا سنة و نصف, أصبح ظاهرا الآن بكل وضوح بين فرنسا ماكرون و المملكة المغربية الشريفة. حسب وجهة نظري المتواضعة القضاء الفرنسي هو أداة تستعمل في هذا الصراع. تقبلوا سلامي.
إيزم
السبت، 04-03-2023 04:05 م
فرنسا يا صديقي دائما ما تستخدم "قضاءها النزيه" و منظمات "حقوق الانسان و المرأة و الطفل و الشجر و الحجر" و "مراسلون بلا حدود" و هلم جرا .. تستخدمها عند الحاجة ما دمت "صديقا" اي مصلحتي تقتضي التعامل الجيد معك فأجمد كل القضايا التي تهمك من قريب أو بعيد و اظهر لك الابتسام و التودد و لكن ما ان تتعارض مصالحنا حتى اكشر عن انيابي و اعطي قبلة الحياة لكل القضايا المجمدة لتركيعك اذا رأيت انياب "الخسيس" بارزة فلا تظنن ان "الخسيس" يبتسم.