مقالات مختارة

زلزال في سوريا: الطبيعة أم السياسة؟

ياسين الحاج صالح
عربي21
الزلزال الذي أصاب شمال غرب سوريا وجنوب تركيا يثير في النفس شعوراً بالخجل، خجل من الوجود، خجل حيال الضحايا الراحلين، ورعب الأحياء، والمعاناة التي لا ينتهي. الخجل من العجز، الخجل من استجابات القادرين، الخجل من أننا نجونا من الأسوأ، ولم نكن منكشفين مثل أشدنا انكشافاً، العراة إلا من «حياة عارية». بعد قليل تصل مساعدات شحيحة، مصممة لإبقاء الأوضاع كما هي، أي سيئة، لكن دون مفاجآت كبيرة تسبب ضجيجاً.

«العقل الإنسانوي» (والعبارة عنوان كتاب لديديه فاسون) تحركه الكوارث، ويستجيب لها بحذف المفاجئ، باستعادة النظام والاستقرار. «القلق» أو «الصدمة» من عبارات العقل الإنسانوي عن أثر الكارثة عليه، والمساعدة والإغاثة هي استجاباته. العدالة والحقوق السياسية والتحرر الاجتماعي والوطني لا تنتمي إلى معجمه. وبين كوارث الطبيعة والسياسة، الأولوية للكوارث الطبيعية التي تقلق أقل لأنه لا أحد مسؤول مباشرة عنها، ولأنها يتيح للجميع أن يكونوا أخياراً لبعض الوقت. أما كوارث السياسة فتقلق أكثر رغم أنه يجري تطبيعها، أو لأنه يبقى منها شيء «غير طبيعي» رغم التطبيع.

تبدو الأمور مقلوبة في سوريا بعد نحو اثنتي عشرة سنة من مسلسل كوارث رهيب، معلوم الفاعلين، مر دون محاسبة ودون عقاب، بل يبدو أنه تجري مكافأة المجرم على نجاحه في توسيع دائرة المتضررين من جرائمه بالتطبيع معه. أي بالتعامل معه كواقعة من وقائع الطبيعة غير المتغيرة. ما حدث سياسياً، أي ما ارتكب من جرائم، يبدو بمثابة كارثة طبيعية، دون فاعلين ودون مسؤولين، أشبه بزلزال لا وجه للوم أحد عليه. بل ثمة من هم أقرب إلى لوم الضحايا على نواقص وعيوب حقيقية أو متوهمة، إلى حد يقارب مطالبتهم بالاعتذار عما يكونون. الزلزال يكاد يكون الاسم العام لكل ما يأتي من سوريا، منذ عام 2013 على الأقل، حتى إذا أتى زلزال جيولوجي فعلاً كانت عتبة الإحساس بالكارثة قد ارتفعت إلى حد أن يتعذر بلوغها.

ارتفاع العتبة هذا مقياس مناسب لتبلد الإحساس، ومن ثم شلل الفعل. ولا ينقض ذلك احتمال وصول مساعدات من دول غربية (مليون يورو من ألمانيا!) أو عربية أو غيرها، لكن الوضع في المناطق المتضررة، وفي عموم سوريا في واقع الأمر، يتجاوز من كل جانب سلة المعالجات التي طلع بها «العقل الإنسانوي» الموجه نحو حفظ النظام والحد من قلق كبار المنتفعين من النظام، بل وإعطائهم فرصة للتبجح بإنسانيتهم.

هل في ذلك ما يدعو إلى النظر إلى الزلزال كمسألة سياسية؟ لا معنى لذلك بخصوص واقعة الزلزال ذاتها، لكن له كل المعنى بخصوص عواقب الزلزال البشرية والمادية، وبخصوص سبل التعامل مع الكارثة. في مناطق الشمال الغربي السوري ما يزيد على أربعة ملايين ونصف المليون من السوريين، أكثر من نصفهم لاجئون من مناطق أخرى. وهم يعيشون في منطقة تتعرض للقصف منذ عام 2012، الكثير من منازلها متداعٍ، والبنية التحتية في حال متدهورة. ولمرة واحدة تظهر للسكنى في خيام فضيلة عدم التسبب بموت ساكنيها إن انهارت فوق رؤوسهم، وهي انهارت كثيراً في الأيام الماضية بفعل الأمطار والثلوج.

ومن البديهي أن تأثير الزلزال في شروط حياة كهذه أقسى بكثير من تأثيره المحتمل في شروط أقل سوءاً. إلى ذلك فإن سرعة الاستجابة، وحسن تحريك الموارد، بل ومجرد التعبير عن احترام الضحايا والاهتمام بمعاناتهم، هي مما يمكن أن يخفف من أسوأ الأضرار لو كان ثمة سياسة مهتمة بالسكان وأحوالهم. لم يكن، لا اليوم، ولا منذ قبل الثورة والحرب، وقبل العقوبات الغربية.

يحتاج الناس لأن يتذكروا أن نحو مليون وثلاثمائة ألف من السوريين من مناطق الجزيرة (الرقة ودير الزور والحسكة) تشردوا بين 2006 و2020 بفعل موجة جفاف أصابت المنطقة، وفاقمتها سياسة تسعير المحروقات وقتها، ولم يتلقوا دعماً يذكر. سكنوا في خيام أو مساكن صفيح على حواف المدن، وعملوا حيث تسنى لهم في جني المحاصيل أو أعمال الإنشاءات، وعاشوا في بؤس. كانت مساعدات الأمم المتحدة القليلة تباع من قبل أجهزة النظام للتربح الشخصي.

فإذا رفضنا تسييس الزلزال من حيث آثاره وسبل التعامل معه سعياً وراء التضامن في مواجهة محنة وطنية، يسارع النظام ذاته إلى تخييب مسعانا، بإصراره على أن تمر كل المساعدات الدولية المحتملة عبره، حتى إلى مناطق ما انفك يقصفها، حتى أنه وجد مناسباً أن يقصف بلدة مارع قبل مساء اليوم الأول للزلزال.

خلال اثني عاماً من عمر الموجة الراهنة من الصراع السوري، لم تصدر إشارة احترام واحدة حيال الرابطة السورية الجامعة، مثلاً إعلان الحداد على الضحايا على ما ذكر ياسين سويحة في تغريدة على تويتر (أعلن الحداد على باسل الأسد لثلاثة أيام وعلى حافظ أربعين يوماً، حسب ياسين) بالمقابل أعلن الحداد في تركيا لأسبوع على ضحاياها؛ أو مثلاً إيراد معلومات عن الضحايا في المناطق الخارجة عن سيطرته (العكس غير صحيح: تثابر منابر معارضة على إيراد معلومات عن الزلزال من مصادر النظام). يود المرء بالفعل ألا ينشغل باعتبارات سياسية في مقام فاجعة يفترض أن تكون جامعة وتُحيّد وقتياً المنازعات السياسية، لكنه يجازف بأن يكون مفرط السذاجة إذ يفعل ذلك في بلد مثل الذي يحكمه نظام: الجوع أو الركوع.

نلح على هذه النقطة المعنوية لأنه ليس في الذاكرة السورية المعاصرة كوارث طبيعية كبيرة، يرجح لضحاياها المباشرين أن يكونوا بالألوف، ولملايين أن يتأثروا بها بصورة مختلفة (23 مليونا هم المتأثرون في سوريا وتركيا معاً، حسب تقديرات أولية). ويميل المرء لأن يعتقد بأنها فرصة تعبير عن نية طيبة، عن المشترك الأساسي بين السوريين. لكن لا شيء من ذلك من طرف القوة التي كانت، بالمقابل، منبعاً لأكبر الكوارث السياسية في تاريخ البلد، الحكم الأسدي. منظوره السياسي يضع في علاقة عداء مع محكوميه، فلا يستطيع التفكير في أي شيء إلا بمنطق تأكيد سلطته وإضعاف المحكومين. لا قوته من قوتهم ولا قوتهم من قوته.

يبقى أن سوريين هم من يقومون بكل شيء تقريباً لمساعدة إخوانهم المنكوبين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. فعلوا ذلك بموارد محدودة وتجهيزات قليلة، بالأيدي العارية غالباً وفي جو ثلجي قاس اقتربت درجة الحرارة فيه من الصفر. وأظهر الشتات السوري تضامناً طيباً، وجُمعت تبرعات لمصلحة الأجسام الإغاثية المدنية الموثوقة. يمكن لذلك أن يكون نموذجاً للتعافي وللمستقبل السوري. ليست «الدولة» هي ما يجمع السوريين، بل هي بالضبط ما يفرقهم ليسودهم، ما يجمعهم هو روابط وطنية وإنسانية لم تمت رغم كل شيء. هذا ما يعول عليه.
التعليقات (0)