مائة مليار يورو تخصصها الحكومة الألمانية الحالية لتسليح الجيش، بينما تظل مخصصات ميزانية
التعليم لرياض الأطفال والمدارس والجامعات والمعاهد القادمة من الحكومة الفيدرالية والولايات والوحدات المحلية دون 170 مليار يورو على الرغم من الوعود الرسمية بإيصالها إلى 300 مليار بغية السيطرة على أزمات القطاعات التعليمية المتراكمة.
نحن نتحدث عن ألمانيا صاحبة أكبر رابع اقتصاد عالميا والدولة الأغنى أوروبيا والعضو الأهم في الاتحاد الأوروبي الذي باعدت قوة الاقتصاد الألماني بينه وبين الركود والانكماش طوال السنوات الماضية.
هل تصدقون، أن ألمانيا هذه تعاني مدارسها من نقص فادح في إجمالي عدد المعلمات والمعلمين اللازمين لإدارة العملية التعليمية يقترب من 6 ملايين معلمة ومعلم مطلوبين فورا؟ هل تصدقون أن هذا النقص الفادح تراكم خلال السنوات الماضية دون توقف بسبب رفض الحكومات الألمانية المتعاقبة رفع مخصصات التعليم؟ هل يتصور عارف بشؤون ألمانيا أن مدارسها صارت تعين كمعلمات ومعلمين غير المؤهلين للتدريس وغير الحاصلين على شهادات في التعليم والتربية بهدف سد النقص وإدارة يوميات الحياة المدرسية على نحو أو آخر؟
في ألمانيا، يسمون أولئك المعينين للتدريس دون مؤهلات مناسبة «الصاعدين من الأجناب «وتعمل
المدارس على تشجيع انضمامهم إليها بكل المغريات المالية والمهنية الممكنة. على الرغم من ذلك، لم تنجح أية ولاية في التخلص من نقص عدد المعلمات والمعلمين عن المطلوب للمدارس، وتحولت ظواهر نعرفها في بلداننا في شمال أفريقيا والشرق الأوسط كضم الفصول المدرسية إلى بعضها البعض والتعليم في فترة صباحية وأخرى مسائية إلى ظواهر يألفها المجتمع وتعالجها وسائل الإعلام ويناقشها الناس فيما بينهم.
عوضا عن رفع مخصصات التعليم وإنقاذ المدارس والجامعات من تدهور حتما سيؤثر على قطاعات المجتمع الحيوية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، لا يرى المشاركون في الحياة السياسية الألمانية، حكومة ومعارضة، في أزمة التعليم قضية تستحق التفكير واقتراح السياسات الإصلاحية وتمريرها وتنفيذها. فبماذا ينشغل المستشار أولاف شولتز ووزراء حكومته؟ وبماذا تنشغل المعارضة الموزعة على الحزبين المسيحي الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي وعلى أحزاب أقصى اليمين واليسار؟
في المقام الأول، تنشغل حكومة شولتز شأنها شأن المعارضة بالحرب الروسية على أوكرانيا وتطوراتها العسكرية وتداعياتها المختلفة. فما أن وافقت الحكومة على توريد دبابات ليوبارد 2 إلى الجيش الأوكراني وشرعت في تدبير الذخيرة اللازمة لعملها، إلا واتجهت أحزاب الائتلاف الحكومي المكونة من الاشتراكي الديمقراطي والخضر والديمقراطي الحر إلى البحث في جدوى توريد طائرات مقاتلة إلى الأوكرانيين بحجة تقوية قدراتهم الجوية في مواجهة التفوق الروسي. وانضمت أحزاب المعارضة المسيحية الديمقراطية والاجتماعية إلى النقاش مؤيدة لتوريد طائرات مقاتلة.
ومن ثم انقلبت افتتاحيات صحف اليسار واليمين والبرامج الحوارية في محطات الإذاعة والتلفزة إلى تناول الأمر، ومن حول ذلك صار «الخبراء» الذين كانوا يتناولون دبابات ليوبارد ومميزاتها ويقارنون بينها وبين دبابات ابرامز الأمريكية بجرة قلم وبقدرة قادر «خبراء» أيضا في سلاح الجو وفي شرح الفوارق بين الطائرات المقاتلة الأمريكية والأوروبية وبين الطائرات الروسية وفي تعديد أهمية أن يبادر الجيش الأوكراني في الربيع بالهجوم ولا ينتظر لصد الهجوم الروسي المتوقع. وبهذا تطور السيرك السياسي والإعلامي الذي سيطر على النقاش العام خلال الأسابيع الماضية وارتبط بمسألة توريد الدبابات إلى سيرك شامل لا حديث به سوى عن السلاح والهجوم والدفاع في ساحات القتال بين الروس والأوكران.
ولم تبتعد غير أحزاب أقصى اليمين واليسار عن التورط في عسكرة النقاش العام والحياة السياسية في ألمانيا، فأعلنت رفضها للاستمرار في توريد السلاح وفي التورط في الفعل وفقا للرغبات الأمريكية التي تريد استنزاف الروس إلى أبعد الحدود. وأعلنت أحزاب البديل لألمانيا وحزب اليسار أيضا رفضها لتحويل البرلمان إلى منصة لتمرير المزيد من قرارات توريد السلاح إلى ساحات الحروب ومواصلة تهميش القضايا المحلية المرتبطة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
في المقام الثاني، ولأن الحكومة بأحزابها الثلاثة تسيطر على النقاش السياسي والإعلامي بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا وتتخذ القرارات الخاصة بالسلاح والدعم الاقتصادي والمالي لحكومة كييف والعقوبات المفروضة على موسكو وتحيل عملا المعارضة المسيحية الديمقراطية والاجتماعية إلى الصفوف الخلفية ومقاعد المساندة دون تأثير، أعادت أحزاب يمين الوسط اكتشاف موضوعات كالهجرة واللجوء وعملت على تناولها لاجتذاب اهتمام الرأي العام وللحصول على تأييد ناخبي اليمين المتطرف.
فعلى لسان رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي، فريدريش ميرتس، وبعد حادثة عنف تورط بها أحد طالبي اللجوء المدانين قانونا والمفترض إبعادهم عن ألمانيا، طالبت أحزاب يمين الوسط بإعادة النظر في قوانين الهجرة واللجوء وبتمكين السلطات القانونية الفيدرالية وفي الولايات من الإبعاد السريع للمتورطين في جرائم وبالحد من الهجرة واللجوء الجماعي وتركيز فتح الأبواب للأجانب على الكفاءات والأيدي العاملة المطلوبة للاقتصاد الألماني الذي يعاني من نقص بالملايين في كافة القطاعات الإنتاجية والخدمية (اشتعل الرأي العام قبل أيام بمقاطع مصورة من محل جزارة في قرية ألمانية يعمل به سيدة ورجل قادمان من الهند نظرا لغياب العمالة الوطنية).
وقفز على نقاش «الأجانب المطلوبين والمرفوضين» حزب اليمين المتطرف البديل لألمانيا، ولم يكن في ذلك مفاجأة، فتلك قضية القضايا بالنسبة له ولأعضائه. ولكن المفاجئ كان قفر حزب أقصى اليسار، اليسار (Die Linke) على النقاش وخروج واحدة من أبرز سياسييه واسمها سارة فاجنكنشت بمقترحات تكاد تتشابه مع مطالب اليمين المتطرف الذي يريد قصر الهجرة واللجوء على من تحتاجهم المصانع والقطاعات الخدمية.
في أجواء كهذه ليس بغريب، إذا، أن يهمل السيرك السياسي والإعلامي في ألمانيا قضية تدهور التعليم والأزمات التراكمية في المدارس والجامعات والنقص الفادح في الكوادر البشرية والمخصصات المالية. مجددا، دليل إفلاس للسياسة والإعلام في بلد أوروبي كبير تخلى عن التزامه بالحلول السلمية للصراعات والنزاعات وينجر اليوم إلى سباق تسلح وتوريد للسلاح إلى ساحات الحروب ونقاشات عبثية يقودها مدعون دون فكر أو ثقافة أو تقدير لخصوصية تاريخ وجغرافية بلادهم.