هذه ليست ورقة وعظ واعتبار على طريقة الشيخ الشعراوي رحمه الله، وليست درسا
في التنمية البشرية عبر وسائل التواصل على طريقة إحسان الفقيه رحمه الله. ويمكن
للمؤمنين رؤيتها من هذه الزاوية إنما عليهم التذكر أننا نقصد معنى اقتصاديا وسياسيا،
وإن لم نكن مختصين في علوم
الاقتصاد السياسي. هذه الورقة عن تونس الأعماق التي قد
يجهلها قارئ غير تونسي، لكننا نرجو أن يتسع صدره للاطلاع والنظر. ومختصرها قبل
الشرح هو ميل فئات واسعة من التونسيين في الأرياف العميقة إلى الاعتماد على أنفسهم
في تدبير كفايتهم والزيادة عليها، معتمدين بالأساس على الأرض والجهد الأسري كقوة
عمل.
الريف التونسي يمدن نفسه
ناقشتُ سنة 1992 أطروحة للمرحلة الثالثة حول التغير الاجتماعي في الريف
التونسي، واتخذت لي منطقة سيدي بوزيد ميدانا للدراسة وبالتحديد الفلاحة السقوية
الخاصة. لقد نشأت هناك ظاهرة لفتت انتباه البحث تتمثل في إقدام الفلاحين (الرُحّل
غالبا) على الاستفادة من المائدة المائية السطحية الغنية، وأنشأوا لهم مزارع خاصة
على مساحات متفاوتة لإنتاج الخضر والقرعيات.
ظهرت النتيجة في الإحصائيات الرسمية للتوزيع السكاني حسب نمط الحياة والسكن (حضر وبدو)، حيث فاقت نسبة الحضر نسبة البدو في تونس. لقد أنهى البدوي بجهده الخاص مسار التبدي واستقر دون تدخل فعلي من الدولة
وفي أقل من عشرية وصلت المنطقة إلى إنتاج 25 في المائة من حاجة السوق
الوطنية إلى الخضر (بحسب إحصاء رسمي)، رافقت ذلك صراعات كثيرة على حدود الممتلكات
وعلى فتح المسالك بينها، لكن التجربة نجحت في تحويل البدو المترحلين (أهل الوبر)
إلى سكان مستقرين يبنون منازل من مدر. حتى ذهبتُ إلى استنتاج استحسنته لجنة
الأطروحة؛ أن القاعدة الخلدونية للعصبية (التمدن غاية البدوي يجري إليها) قد تحولت
من غزو العصبية للمدينة واستحلالها إلى إنشاء المدينة في مكان المرعى البدوي
القديم.
وقد ظهرت النتيجة في الإحصائيات الرسمية للتوزيع السكاني حسب نمط الحياة
والسكن (حضر وبدو)، حيث فاقت نسبة الحضر نسبة البدو في تونس. لقد أنهى البدوي
بجهده الخاص مسار التبدي واستقر دون تدخل فعلي من الدولة، وكان في ما قام به رد
على جهد الدولة السابق في عقد الستينات عندما تولت حفر آبار للسقي والري بغرض استقرار
السكان بشكل فوقي غير مدروس (سميت بآبار الدولة) لا تزال آثاره ماثلة فلم يستجب
لها.
وقد استشرفت حينها أن هذا المسار سيتجاوز المنطقة المؤسسة إلى كل البلد،
واليوم يلاحظ من يعبر الخريطة التونسية كلها أن "النبوءة" كانت استشرافا
علميا، فقد امتدت المساحات السقوية الخاصة من سيدي بوزيد إلى الجنوب وصولا إلى بن
قردان، وشمالا إلى الكاف، مرورا بالقيروان والقصرين في الوسط. ويمكن رؤية
المؤشرات/ النتائج في نوع المسكن ونوع السيارات ونسب التمدرس، أما عدد أصول
الأشجار المثمرة من زيتون ومشمش وفستق فقد صارت تحسب بالمليون لا بالألف. وكانت
الدولة متفرجة بل عنصرا معطلا في غالب الأحيان، باسم الحفاظ على المدخر المائي
الجوفي للأجيال القادمة.
وتواصل الدولة حاليا تعطيل هذه الموجة من التحرر الاقتصادي بمنع الاستفادة
من الطاقة الشمسية المجانية، لكن الفلاحين تجاوزوا كالعادة وبأسلوبهم عوائق شركة
الكهرباء العمومية ونقابتها التي تود بيع الشمس المجانية للفلاحين.
الليبرالية من أسفل
السبب الحقيقي في ما لاحظته ودرسته هو فقد أمل البدو القدامى من الدولة
الحديثة التي لم تملك خطة تنموية حقيقية لغير الحضر الساكنين قريبا من قصر الحاكم
الأوحد. لقد فشلت في فرض خيار اشتراكي على الفلاحين (البدو) في الستينات، وقد
سبقني إلى ذلك أستاذ علم الاجتماع المولدي لحمر؛ عندما أكد تحول فلاحي أرياف صفاقس
من الخروف (الرعي) إلى الزيتونة (الاستقرار) ردا على فشل تجربة التعاضد المفروضة
فوقيا.
وقد تأكد لدى الريفيين تخلي الدولة عنهم بجنوحها إلى اقتصاد المناولة
والخدمات، وخاصة بالاستثمار في السياحة الشاطئية المكثفة لبيع الشمس والرمل والبحر
والجنس (أو ما يختصر في أربعة حروف "S" (Sea, Sun, Sand, and Sex). لقد
تجاوزوا الدولة واعتمدوا على أنفسهم، وكان ذلك ميلادا حرا لما أنعته بكثير من
التحرر من أرثوذوكسية المصطلح الاقتصادي بميلاد الليبرالية الجديدة في تونس.
لقد تحرر البدو من الدولة (الرسمية)، أعني الإدارة الفوقية وبنوا دولتهم
الحرة بجهدهم. فقد كانت المؤسسة الفلاحية الخاصة بالأساس مؤسسة عائلية يستغل فيها
جميع أفراد الأسرة وتستعين إذا نجحت بيد عاملة من خارج الأسرة. وقد تزامن ذلك مع
ظاهرة حضرية أخرى (غير فلاحة) هي ظاهرة المؤسسة الاقتصادية العائلية في صفاقس،
والتي كتب فيها الأستاذ المهندس منصف بوشرارة وسماها
الصناعة الزاحفة، ونتيجتها
الآن ظاهرة للعيان في مدينة صفاقس التي تصنع أغلب أحذية تونس وكثيرا من أدواتها المنزلية.
البعض يفضل الهجرة السرية وهو حل فردي يائس، ولكن الاتجاه إلى المشروع الخاص يتأكد أيضا، ويواجه صعوباته بعناء لكن الانسداد يدفع إلى حل جذري في المجال الزراعي أولا، وقد يعيد "الانتشار" في الخدمات والصناعات الصغرى بما يسهل لنا قولا استشرافيا أن الليبرالية ستأتي وحدها دون أن تفرضها قوى التمويل الخارجية، لتخفي وجه دولة الريع إلى الأبد
اليوم تصل تونس إلى حالة انسداد اقتصادي فاقمها الانقلاب، ولكن أسبابها
سابقة عليه. لقد وصلت الرعاية العمومية إلى آخر قدراتها على العطاء والتكفل
بالسكان عبر إعادة التوزيع العمومي، ويفقد الناس كل صباح أملهم في أن توفر لهم
الدولة غذاء مدعوما ويتجهون إلى الحلول الفردية. البعض يفضل الهجرة السرية وهو حل
فردي يائس، ولكن الاتجاه إلى المشروع الخاص يتأكد أيضا، ويواجه صعوباته بعناء لكن
الانسداد يدفع إلى حل جذري في المجال الزراعي أولا، وقد يعيد "الانتشار"
في الخدمات والصناعات الصغرى بما يسهل لنا قولا استشرافيا أن الليبرالية ستأتي
وحدها دون أن تفرضها قوى التمويل الخارجية، لتخفي وجه دولة الريع إلى الأبد.
هناك مناخ ليبرالي يوشك أن يكون فطريا لدى التونسيين الذين بنوا وعيهم
الاقتصادي على الملكية الخاصة ورفض الاشتراك مع الآخرين. (فقولهم الشركة تركة
والتركة من التتريك، والتتريك عندهم التخريب والخسران).
أوصل الانقلاب ومن سبقه المؤسسة الاقتصادية العمومية إلى آخر قدراتها على
التشغيل والعطاء، وهناك مؤسسات اقتصادية تمولها الدولة من ضرائب الموظفين والفلاحين
لتستمر على قيد الحياة، وهو باب للخسران المبين مثل "ما هو الحال في شركة
الطيران الوطنية".
ونستشرف بثقة أن التغيير الحقيقي في المجال الاقتصادي كما في المجال
السياسي سيأتي من الأسفل أو من المؤسسة الاقتصادية الخاصة، حيث لا يمكن للنقابات
مهما كانت سطوتها وللأحزاب السياسية مهما كانت حذلقاتها اللغوية أن تؤثر على شخص
أو أسرة مستقلة اقتصاديا عن الدولة.
من أراد البرهان الواضح عليه أن يسير في تونس من شمالها إلى جنوبها ليرى تقدم الناس على الأرض واستغناءهم عن الدولة القاهرة؛ مقسطة الأرزاق حسب الولاء السياسي. ومن أراد أن يحكم تونس في المستقبل عليه أن ينتمي إلى هذه الموجة الليبرالية القادمة من أسفل ومن كل الأطراف القصية، ليكتب في رأس صفحته الأولى تمدين الريف غاية السياسي (الحضري) يسعى إليها
لقد برز لي ذلك في سيدي بوزيد زمن الحزب الواحد والرئيس الإمبراطور وزمن
انعدام الحرية، لقد كانت علاقة الناس بالمؤسسة السياسية وبالإدارة قائمة على مقدار
ما تقدم لهم من خدمات مثل توفير الكيماويات الزراعية والبذور. فحضور (مجرد الحضور)
اجتماعات شعب الحزب الحاكم كان مشروطا بتوفير ما ييسر حياة الفلاح بشكل مسبق،
وترجمة ذلك على الأرض أن السياسي كان يخدم الفلاح لا العكس. وهذا انقلاب ليبرالي
عميق على مستوى القاعدة.
في نقاشات عميقة ومستمرة، سمى الدكتور زهير إسماعيل هذا المنوال الاقتصادي
بمنوال الفسيلة (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، ونراه يتقدم على
الأرض بعناء كبير لكنه يملك قوة ذاتية للتقدم (ضد إرادة الدولة/ السياسة نفسها).
ومن أراد البرهان الواضح عليه أن يسير في تونس من شمالها إلى جنوبها ليرى
تقدم الناس على الأرض واستغناءهم عن الدولة القاهرة؛ مقسطة الأرزاق حسب الولاء
السياسي. ومن أراد أن يحكم تونس في المستقبل عليه أن ينتمي إلى هذه الموجة
الليبرالية القادمة من أسفل ومن كل الأطراف القصية، ليكتب في رأس صفحته الأولى
تمدين الريف غاية السياسي (الحضري) يسعى إليها. لقد تحللت العصبيات القبلية
الرعوية الطامعة في ما داخل الأسوار، وانتهت صلوحية القاعدة الخلدونية.. نحن في
منوال الفسيلة الذي يستبق الجميع.