على عكس ما قد
يتهيأ للمتابع، من أن
أوروبا عن بكرة أبيها تؤيد قضية
المثلية، لا تتجاوز المسألة
نخبا محدّدة تقف وراء ذلك، وتحاول دمجها في إطار الهوية الأوروبية وتحويلها إلى عنصر
تميّز واختلاف عن الحضارات الأخرى التي ترفض هذه القضية وتعتبرها شيئا منافيا
للطبيعة.
ورغم المحاولات
المحمومة لإدراج ثقافة المثلية في صلب الثقافة الأوروبية، إلا أن تفاعل المجتمعات
الأوروبية معها ما يزال سلبيا إلى حدود بعيدة، وهو ما دفع النخب الفكرية في أوروبا
إلى ممارسة إرهاب فكري وثقافي ضد الرافضين لتقبل المثلية واعتبارها أمرا طبيعيا. ونتج
عن ذلك أن المجتمعات الأوروبية التجأت لما يشبه الحياد تجاه هذا الأمر، حتى لا
تعرض نفسها لنقد وهجوم تلك النخب، بما يذكرنا بموقفها من اليهود والقضية الفلسطينية،
بعد أن جرى ابتزاز الضمير الأوروبي بالهولوكوست وإشعاره، زورا، بأنه شريك بطريقة
أو أخرى في هذا الحدث.
لا يشكّل عامل
الدين عنصرا مهما في عدم تقبل المجتمعات الأوروبية للمثلية، إذ أن غالبية هذه
المجتمعات تعتبر نفسها لا دينية، والكنيسة كمؤسسة فقدت سطوتها منذ زمن، ولم يعد
لها تأثير كبير في الضمير الأوروبي، بقدر ما أن المسألة نفسية. ورغم إيمان
المجتمعات الأوروبية بالحرية الفردية، إلا أن الأوروبيين يخشون جدا من مخالفة
القوانين بعد أن استطاعت النخب الثقافية الأوروبية دعم الحرية المثلية وحماية
المثليين بالقوانين.
ما هي الأسباب التي جعلت الغربيين يحولونها إلى واحدة من قضايا السياسة الخارجية، رغم إدراكهم للبعد الإشكالي في هذه القضية لدى كافة الحضارات؟
من جهة أخرى،
يمتاز الأوروبيون بالتأطير، أي أن حركاتهم الاحتجاجية غالبا ما تتم عبر أطر معينة،
نقابات واتحادات، الهدف منها تحقيق مصالح مباشرة لأفرادها، ودائما ما تكون
نشاطاتها المطلبية موجهة ضد الدولة التي ما زالت في أوروبا، رغم الليبرالية والرأسمالية،
تتحكم بالثروات وتوزيعها من خلال القطاع العام والوظائف وسيطرتها على الأصول الاقتصادية
الاستراتيجية، وكذلك كونها الجهة الوحيدة المخولة إصدار القوانين والتشريعات.
ثم إن الناس
العاديين لا يملكون منابر للتعبير عن آرائهم لرفض أمر ما أو قبوله، في حين أن
النخب لديها الأدوات والوسائل لإيصال آرائها وفرض مواقفها، وتعرف كيف تخرج القضايا
التي تؤيد بقوالب جميلة تستطيع من خلالها إسكات كل من يعارضها. ولا شك أنهم يستفيدون
في ذلك من مناخ الحرية والديمقراطية السائد في الغرب، وبالتالي فالموقف المتبنى في
الغرب من قضية المثليين لا يعكس رغبة وإرادة وموقف المجتمعات الأوروبية بقدر ما
يعكس رأي وإرادة بعض النخب.
لكن السؤال المهم:
ما هي الأسباب التي جعلت الغربيين يحولونها إلى واحدة من قضايا السياسة الخارجية،
رغم إدراكهم للبعد الإشكالي في هذه القضية لدى كافة الحضارات؟
لا جواب واضح حتى
اللحظة، إذ رغم محاولات دفعه للواجهة كمحدد لعلاقات الدول الغربية، إلا أن صانعي
السياسات والمنفذين، وخبراء السياسات الخارجية في الغرب، ما زالوا يقاومون هذا
الأمر، وذلك نابع من خبرتهم العميقة بقيم ومُثل المجتمعات الخارجية، وعدم رغبتهم
في تأثير هذا الأمر على مصالحهم السياسية والاقتصادية مع العالم الخارجي، لذا يجري
رفض تسييس هذه القضايا بوضوح، لإدراكهم طبيعة التداعيات التي ستترتب على ذلك، جراء
مسألة لا يوجد حولها رأي موحد داخل المجتمعات الغربية.
الدفع بقضية المثلية إلى الواجهة واعتبارها جزئية من منظومة القيم الأوروبية، تقف وراءه محاولات لتمييز الهوية الأوروبية عن سواها، في ظل التداخل الاختلاط الذي صنعته الهجرة المتزايدة إلى أوروبا والخوف من تأثير ثقافات الشعوب المهاجرة في القيم الأوروبية
وليس سرا أن
الدفع بقضية المثلية إلى الواجهة واعتبارها جزئية من منظومة
القيم الأوروبية، تقف
وراءه محاولات لتمييز الهوية الأوروبية عن سواها، في ظل التداخل الاختلاط الذي
صنعته الهجرة المتزايدة إلى أوروبا والخوف من تأثير ثقافات الشعوب المهاجرة في
القيم الأوروبية، سواء من خلال انتشار رموز هذه الثقافات بكثافة في الشوارع الأوروبية
من ملابس ودور عبادة وأنماط حياتية، أو من خلال الاستقطاب الذي تمارسه تلك
الثقافات. وهنا الأمر لا يقتصر على الإسلام، بل إن ثمة إقبال على ثقافات ومعتقدات
منطقة شرق آسيا، كالبوذية والكونفوشية وسواهما.
لكن لم يدخل في
حساب هؤلاء أن تحويل المثلية إلى إحدى قيم المنظومة الأخلاقية من شأنه أيضا أن
يحد، وبدرجة كبيرة، من جاذبية الثقافة الأوروبية ويضعف قدرتها على الاستقطاب، أم
أن الهدف هو تحويل هذه الثقافة إلى كانتون مغلق وبشكل قصدي يطرد أي أجنبي من خارج
البيولوجيا الأوروبية من هذه الثقافة؟
لا تزال المثلية
قضية خلافية، حتى داخل المجتمعات الأوروبية، والتفاعل السلبي معها يؤكد هذه
النتيجة، كما ثبت فشل محاولات فرضها كقضية حرية فردية على المجتمعات الأخرى. وواضح
أن من يقف وراءها، كان يبتغي الاشتباك مع العالم الإسلامي لمنح هذه القضية زخما
زائدا، لكن المحاولة فشلت.
twitter.com/ghazidahman1