هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أثارت الأزمة الأخيرة بين ألمانيا وفرنسا، أكبر اقتصادين في الاتحاد الأوروبي، مخاوف بشأن مستقبل العلاقات داخل الاتحاد، في أعقاب تأجيل الاجتماع السنوي التشاوري الألماني الفرنسي إلى مطلع العام المقبل.
وكان من المفترض أن يناقش الاجتماع الحضوري الأول منذ اندلاع جائحة كورونا ملفات حيوية في الوقت الذي تعيش فيه أوروبا أزمة كبيرة مرتبطة بأزمة الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية.
وأعلن المتحدث باسم الحكومة الألمانية ستيفن هيبيستريت أن الاجتماع الفرنسي-الألماني على مستوى الوزراء الذي كان مقرراً عقده الأسبوع المقبل في باريس تم تأجيله حتى يناير/كانون الثاني المقبل.
وأشار هيبستريت إلى تضارب المواعيد لبعض الوزراء، وأقر بوجود "قضايا مختلفة نعمل على معالجتها في الوقت الراهن.. لم نتوصل بعد إلى موقف موحّد حيالها".
كما أعلن قصر الإليزيه إلغاء اللقاء التشاوري مع ألمانيا بسبب تضارب الموعد مع إجازات خمسة وزراء ألمانيين، من ضمنهم وزيرة الخارجية آنالينا بيربوك.
ويعكس إرجاء الاجتماع الدوري الذي تتناوب الحكومتان على استضافته اتساع الشرخ بين القوتين الأوروبيتين، في وقت تبذل فيه أوروبا جهودا حثيثة للتصدي لأزمتي الطاقة وغلاء المعيشة.
ومنذ تولي أولاف شولتس منصبه مستشاراً لألمانيا، برزت علامات شقاق بينه وبين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، زادت من حدتها تبعات الحرب الروسية الأوكرانية.
وفي الوقت الذي يساند فيه الرئيس الفرنسي ماكرون جهود الاتحاد الأوروبي الرامية إلى إطلاق حزمة دعم مشتركة لأسعار الطاقة، اختار المستشار شولتس الطريق الفردي، وأعلن عن حزمة خاصة بألمانيا لدعم أسعار الطاقة بنحو 200 مليار يورو، دون إعلام باريس مسبقا.
كما يطالب ماكرون منذ سنوات بما يسميه "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي"، والتحرر من الاعتماد العسكري على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، إلا أن الحرب في أوكرانيا أدت إلى رفع معظم الدول الأوروبية من إنفاقها العسكري، وعلى رأسها ألمانيا، التي أقرت حزمة دعم بقيمة 100 مليار يورو لموازنة الجيش الألماني (بوندسفير)، سيذهب معظمها لشراء عتاد عسكري أمريكي، لا سيما مقاتلات "إف 35" الشبحية.
كما أعربت فرنسا عن امتعاضها من عدم إشراكها في مبادرة تقودها ألمانيا و14 دولة في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، تحمل اسم "مبادرة درع السماء الأوروبي"، والتي ستعتمد على شراء كميات كبيرة من بطاريات الدفاع الجوي الأمريكية والإسرائيلية، فيما تريد استثمار هذه الأموال في تطوير البنية التحتية الدفاعية الأوروبية، بدلاً من شراء معدات الأمريكيين أو غيرهم.
والأسبوع الماضي، قال ماكرون إن "ألمانيا تمر بلحظة تغيير لنموذجها، يجب ألا نقلل من أهمية طابعها المزعزع للاستقرار"، مستدركا: "لكن إذا أردنا أن نكون متّسقين فيجب ألا نتبنى استراتيجيات وطنية بل استراتيجية أوروبية".
توتر في العلاقات
وفي تعليق، أشار الصحفي والباحث في الشأن الأوروبي وسام أبو الهيجاء إلى تصاعد التصريحات العدائية الفرنسية تجاه جيرانهم الألمان مؤخراً، معتبرا أن اللقاء العاصف الذي جمع الرئيس الفرنسي بالمستشار الألماني شولتز في قصر الإليزيه الأسبوع الماضي يعكس التوتر في العلاقات بين الجانبين نتيجة تراكم الخلافات حول جملة من القضايا.
وقال في تصريح لـ"عربي21": "يؤكد تأجيل الاجتماع السنوي للمجلس الوزاري الألماني الفرنسي الذي ينعقد بشكل سنوي منذ اتفاقية آخن عام 2003 وجود شرخ كبير في العلاقات الاستراتيجية بين باريس وبرلين، حيث وسعت الخلافات بين الجانبين حول ملفات الطاقة والدفاع والتسليح والتجارة من الفجوة بين عجلتي العربة الأوروبية، وحلت المواقف الأحادية محل مساحات العمل المشترك في وقت تحتاج فيه أوروبا إلى التوحد أمام الأزمات المصيرية التي تواجهها".
وأشار أبو الهيجاء إلى أن باريس تقول إن جارتها برلين تقوم بمنح سياسة "ألمانيا أولاً" الأولوية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا وبدء المواجهة المفتوحة بين أوروبا وروسيا، حيث أعلن شولتز عن تأسيس مشروع مظلة دفاع جوي أوروبي تشكل الأنظمة الدفاعية الأمريكية والإسرائيلية عاموده الفقري دون التنسيق مع فرنسا، سبقه إعلان آخر عن تخصيص ألمانيا 100 مليار يورو لتطوير أسطول مقاتلاتها الجوية وشراء طائرات أمريكية مقاتلة، وهو ما اعتبرته فرنسا إلغاء للخطط المشتركة مع برلين لتطوير الأنظمة الدفاعية الأوروبية والاعتماد عليها، وتراجعاً عن التفاهمات السابقة حول توحيد سياسات التسليح.
اتهامات فرنسية
أما في الملف الاقتصادي، فاتهمت باريس حلفاءها الألمان بالإخلال في قواعد المنافسة بعد أن أفرجت الحكومة الألمانية عن حزم من المساعدات لدعم الشركات الألمانية في مواجهة ارتفاع أسعار الطاقة، واعتبرته تهديداً لشركاتها التي تواجه أزمات حادة تهدد مستقبلها ومستقبل مئات الآلاف من العمال، بحسب الباحث في الشأن الأوروبي.
من جهة أخرى، اعتبر وسام أبو الهيجاء أن الانفتاح الألماني على الصين مؤخراً ساهم في رفع التوتر بين الحليفين الأوروبيين أيضاً، حيث كان من المقرر أن يسافر وفدا فرنسا وألمانيا برئاسة شولتز وماكرون إلى الصين في وفد موحد، وذلك لإظهار أوروبا ككتلة موحدة ومتناسقة في جميع الملفات، وتفاجأ ماكرون بإعلان المستشار الألماني شولتز نيته الذهاب إلى بيجين بصحبة وفد اقتصادي ألماني كبير لبحث سبل الاستثمار بين الجانبين، وهو ما أثار غضب الرئيس ماكرون.
وتابع: "في المقابل، ترجم ماكرون امتعاضه من المواقف الأحادية الألمانية في ملفي الدفاع والتسليح وملف التجارة الخارجية بالاعتراض على مشروع خط الأنابيب Midcat لنقل الغاز من إسبانيا عبر جبال البيرينيه إلى فرنسا، وهو الخط الذي تراهن عليه ألمانيا لتعويض الغاز الطبيعي الروسي، حاولت ألمانيا الاصطفاف إلى جانب إسبانيا لتطوير خط أنابيب البحر الأبيض المتوسط الواصل إلى مرسيليا، لكنها اصطدمت بمعارضة فرنسية قوية حالت دون المضي قدماً في المشروع حتى اللحظة".
وخلص أبو الهيجاء إلى أنه يمكن القول بأن حكومة المستشار الألماني شولتز قد فشلت في استخلاص العبر من التجربة الألمانية في الاعتماد على الخارج لتأمين الطاقة، حيث أبقى شولتز على نهج ميركل بالتحليق بعيداً عن السرب الأوروبي حفاظاً على ديمومة النمو الاقتصادي واستمرار عجلة الصناعة بغض النظر عن الأزمات التي تواجهها الوحدة الأوروبية، هناك منافسة حقيقية بين ألمانيا وفرنسا على قيادة الاتحاد الأوروبي لا تخفي باريس قلقها من تداعياتها، لكن الخطر الحقيقي على مستقبل الوحدة الأوروبية يكمن في غياب الإرادة السياسية لدى برلين لتغليب المصلحة الأوروبية على المصلحة الألمانية لضمان مستقبل القارة الأوروبية.
نقاط عالقة
من جهته، قال الكاتب والمحلل في الشؤون الأوروبية حسام شاكر إن تأجيل الاجتماع السنوي التشاوري الألماني الفرنسي يؤكد تباعد وجهات النظر بين باريس وبرلين بشأن العديد من القضايا العالقة، وهذا ما اتضح بشكل كبير خلال القمة الأوروبية الأخيرة في بروكسيل، حيث عجز القادة الأوروبيون عن الخروج بمواقف موحدة بشأن عدة ملفات.
وخلال تلك القمة، تم الحديث عن نهج انفرادي تفضله برلين قياسا بما كانت تحاول باريس أن تقوده بإجماع أوروبي معين بشأن ملفات الطاقة والمساعدات الأوروبية للمتضررين من هذا الموسم الاقتصادي الصعب في أوروبا، بحسب شاكر.
وأضاف: "رغم انعقاد لقاء على مستوى القمة بين المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بروكسيل، إلا أن النتيجة لم تؤد إلى تفاهم بشأن النقاط العالقة، بالتالي، اللقاء التشاوري لم يكن بوسعه أن يقدم شيئا جديدا طالما أن برلين ماضية في خطها في القضايا موضع الخلاف، مقابل عجز باريس عن الوصول إلى صيغة أوروبية مشتركة بشأن هذه القضايا العالقة".
وقال حسام شاكر في تصريح لـ"عربي21" إن "هذا الاختلاف ليس بالأمر الجديد داخل الاتحاد الأوروبي، حيث بات من الواضح أن إدارة العلاقة خلال هذا الظرف أو الوصول إلى صيغة تفاهم يبدو أمرا صعبا".
واعتبر أن محاولة فرنسا والدول الأوروبية التي معها لإيجاد سياسة أوروبية مشتركة في التعامل مع التحديات الاقتصادية المترتبة عن الموسم الاقتصادي الحالي مبالغ فيها، حيث لا تنسجم مع خصوصيات كل دولة على حدة، قائلا: "هذا الرهان الفرنسي ليس واقعيا بمنطق السوق والرأسمالية المعولمة وبمنطق خصوصيات كل بلد من ناحية اقتصادية".
اقرأ أيضا: هل ينجح الاتحاد الأوروبي بوضع حد أقصى لأسعار الغاز؟
في المقابل، تمتلك ألمانيا مقاربة خاصة في هذا الشأن تتمثل في الاستمرار في نهج خاص بها ما قد يؤثر على إمكانية إحداث توافق أوروبي حقيقي بشأن الملفات العالقة، لكن تبقى هناك فرصة لأوروبا الموحدة لإيجاد توافقات جزئية أو بعض الترتيبات المشتركة، بحسب الخبير في الشأن الأوروبي.
وعن إعلان ألمانيا حزمة خاصة لدعم أسعار الطاقة دون إعلام فرنسا مسبقاً، قال حسام شاكر إن هذه الخطوة أثرت على توجه باريس لإيجاد نوع من التوافق الأوروبي في الوقت الذي تبحث عنه إدارة ماكرون عن ملء الفراغ في أوروبا الموحدة بعد خروج أنجيلا ميركل من المشهد.
وأشار إلى أن فرنسا تحاول عدم إبقاء ألمانيا متصدرة في القدرة الاقتصادية وأن لا تحرج برلين بقية الدول الأوروبية التي لا تستطيع مجاراة منسوب دعم المتضررين من الأزمة الاقتصادية الذي حُدد في ألمانيا بـ200 مليار يورو، وهي حزم لا تستطيع أوروبا مجاراتها، ما يسبب حساسيات في العلاقات بين دول أوروبا.
واستبعد المحلل وجود تكتلات دول ضد دول داخل الاتحاد الأوروبي بعد توقيع ألمانيا على هامش مؤتمر حلف الناتو الأخير مع 14 دولة أوروبية أخرى، على "مبادرة درع السماء"، من دون فرنسا، لكن هناك استقطاب وهي حالة واقعية في أوروبا الموحدة.
وتابع: "هذا الاستقطاب عشناه من قبل خلال التصارع الحقوقي على الساحة الليبية بين فرنسا وإيطاليا فيما كانت ألمانيا تراقب الوضع بصفة عاجزة خلال عهد ميركل، وكان هناك نوع من التراشق بين الحكومات الأوروبية وهو ليس أمرا جديدا داخل الاتحاد".
وأضاف: "أوروبا الموحدة لم تتبلور بالأساس كحلف عسكري ولا ككتلة على مستوى السياسات الخارجية، بل تبلورت في اتجاه الاقتصاد ثم الأنظمة المتعددة مثل الدعم والتشغيل والتقارب الاقتصادي والأمني والأنظمة التشريعية، الأمر الذي يؤدي إلى الاعتماد على الناتو في الحماية وكذلك إيجاد مبادرات فرعية ليست بحجم الاتحاد الأوروبي".
وأردف: "الاتحاد الأوروبي عجز عن أن يكون كتلة عسكرية متماسكة، لكن هذا لا يعني وجود صدام بين الأعضاء أو صراع داخل أوروبا، فيما تبقى أوروبا كمشروع وحدوي في حالة قاصرة نسبيا في بعض الملفات مثل الدفاع".
وعن مستقبل الاتحاد الأوروبي، قال الخبير إنه "وإن بدا أن هناك بعض الأزمات والاستقطابات، إلا أنه لا غنى للمنظومة الأوروبية عن هذا الاتحاد، في حين أن الإشكال يكون في بعض المقاربات المبالغ فيها بشأن وحدة الاتحاد التي تتجاوز أحيانا القدرة الواقعية لهذا المشروع".
اقرأ أيضا: المستشار الألماني يدعو إلى توسيع الاتحاد الأوروبي شرقا
واعتبر أن الاتحاد سيبقى حاجة ماسة لأوروبا مشيرا إلى أن هذه الأزمات، مثل ما كان في السابق في بعض الملفات مثل كورونا وأزمة اليورو وملف اللاجئين، تمثل اختبارا جسيما للاتحاد الأوروبي وتؤدي لاستقطابات وحالات من التنافر، ولكن هذه الأزمات تمثل طوق نجاة لعدة دول أوروبية من خلال التعامل مع هذه الأزمات بشكل جماعي.
وختم بالقول: "قد نشهد خيبة أمل فرنسية تجاه ألمانيا، وليست أزمة ثقة، لكن هذا لا يعني أن مشروع الاتحاد الأوروبي مهدد، بل على العكس الاتحاد باق لكنه سيواجه بين الحين والآخر إشكالات متوقعة، والتجارب تقول إن أوروبا تقوم على وحدتها، متفرقة الأهواء، متعددة المصالح، متشعبة الارتباطات ومتباينة الخصائص الداخلية".